الفَرعُ الأوَّلُ: تَأثُّرُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بالمُعتَزِلةِ والفلاسِفةِ في بابِ صِفاتِ اللهِ تعالى
تَأثَّر مَذهَبُ الشِّيعةِ الاثني عَشريَّةَ بمَذهَبِ المُعتَزِلةِ وغَيرِهم مِن أهلِ الكلامِ في تَعطيلِ صِفاتِ البارِئِ سُبحانَه وتعالى، الثَّابتةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وقَوِيَ اتِّجاهُ التَّعطيلِ عِندَهم في المِائةِ الرَّابعةِ لَمَّا صَنَّف لهم المُفيدُ، والشَّريفُ المُرتَضى، و
أبو جَعفرٍ الطُّوسيُّ، مُؤَلَّفاتٍ في التَّوحيدِ، اعتَمَدوا فيها على كُتُبِ المُعتَزِلةِ
، ونَقَلوا نَفسَ عِباراتِ المُعتَزِلةِ، وكذلك ما يذكُرونَه في تَفسيرِ القُرآنِ في آياتِ الصِّفاتِ والقدَرِ ونَحوِ ذلك، هو مَنقولٌ مِن تَفاسيرِ المُعتَزِلةِ أيضًا
.
والنَّاظِرُ في كُتُبِ مُتَأخِّري الشِّيعةِ يجِدُها في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ موافِقةً لكُتُبِ المُعتَزِلةِ، مِثلُ إثباتِ الأسماءِ الحُسنى دونَ الصِّفاتِ، ومَسألةِ خَلقِ القُرآنِ، ونَفيِ رُؤيةِ المُؤمِنينَ لرَبِّهم في الآخِرةِ.
وقد صَرَّحَ ابنُ المُطَهَّرِ بأنَّ مَذهَبَهم في الأسماءِ والصِّفاتِ كمَذهَبِ المُعتَزِلةِ
، وصَرَّحَ الطَّباطبائيُّ أنَّه أيضًا كمَذهَبِ الفلاسِفةِ
.
والشُّبُهاتُ التي يُثيرُها شُيوخُ الشِّيعةِ هي نَفسُ الشُّبهاتِ التي يُثيرُها شُيوخُ المُعتَزِلةِ، وكِلا الفريقَينِ يعتَمِدونَ في صِفاتِ اللهِ على المَنهَجِ العَقليِّ الكلاميِّ. والفَرْقُ بَيْنَ كُتُبِ المُعتَزِلةِ والشِّيعةِ في مَسائِلِ الصِّفاتِ أنَّ الشِّيعةَ أسنَدوا رِواياتٍ إلى الأئِمَّةِ تُصَرِّحُ بنَفيِ الصِّفاتِ، وتَقولُ بالتَّعطيلِ.
ومِمَّا رَوَوه عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (كمالُ الإخلاصِ نَفيُ الصِّفاتِ عنه)
.
مَعَ أنَّ الثَّابتَ عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وأئِمَّةِ أهلِ البَيتِ إثباتُ الصِّفاتِ للهِ سُبحانَه، والنَّقلُ بذلك ثابتٌ مُستَفيضٌ عنهم في كُتُبِ أهلِ العِلمِ
، حتَّى في بَعضِ رِواياتِ الشِّيعةِ أنفُسِهم.
وقد رَوى ابنُ بابَويهِ أكثَرَ مِن سَبعينَ رِوايةً تَقولُ: إنَّه تعالى (لا يوصَفُ بزَمانٍ ولا مَكانٍ، ولا كيفيَّةٍ ولا حَرَكةٍ ولا انتِقالٍ، ولا بشَيءٍ مِن صِفاتِ الأجسامِ، وليسَ حِسًّا ولا جُسمانيًّا، ولا صورةً)
.
وقال مُحَمَّدٌ الحُسَينيُّ القزوينيُّ في وصفِ اللهِ سُبحانَه: (لا جُزءَ له، وما لا جُزءَ له لا تَركيبَ فيه، وما ليس بمُرَكَّبٍ ليس بجَوهَرٍ ولا عَرَضٍ، وما ليس بجَوهَرٍ ليس بعَقلٍ ولا نَفسٍ، ولا مادَّةٍ ولا صورةٍ ولا جِسمٍ، وما ليس بجِسمٍ ليس في مَكانٍ ولا في زَمانٍ ولا في جِهةٍ ولا في وقتٍ، وما ليس في جِهةٍ لا كَمَّ له ولا كيفَ ولا رُتبةَ، وما لا كَمَّ له ولا كيفَ له ولا جِهةَ لا وَضعَ له، وما ليس له وَضعٌ ولا في وقتٍ ولا في مَكانٍ لا إضافةَ له ولا نِسبةَ، وما لا نِسبةَ له لا فِعلَ فيه ولا انفِعالَ، وما ليس بجِسمٍ ولا لونٍ ولا في مَكانٍ ولا جِهةٍ لا يُرى ولا يُدرَكُ)
.
وهذه طَريقةُ المُتَفلسِفةِ مِنَ الصَّابئةِ والجَهميَّةِ والباطِنيَّةِ ونَحوِهم، الذينَ يصِفونَ اللهَ سُبحانَه بالصِّفاتِ السَّلبيَّةِ على وَجهِ التَّفصيلِ، ولا يُثبتونَ إلَّا وُجودًا مُطلقًا لا حَقيقةَ له عِندَ التَّحصيلِ؛ فقَولُهم يستَلزِمُ غايةَ التَّعطيلِ، وهو نَفيُ الوُجودِ الحَقِّ؛ لأنَّهم يُعَطِّلونَ الأسماءَ والصِّفاتِ تعطيلًا يستَلزِمُ نَفيَ الذَّاتِ، كما يستَلزِمُ غايةَ التَّمثيلِ؛ حَيثُ يُمَثِّلونَه بالمُمتَنِعاتِ والمعدوماتِ والجَماداتِ
!
وهؤلاء جَميعًا يفِرُّونَ مِنَ الإثباتِ خَوفَ التَّمثيلِ، فيقَعونَ في نَظيرِه وفي شَرٍّ منه، مَعَ ما يلزَمُهم مِنَ التَّحريفاتِ والتَّعطيلاتِ
.
واللهُ سُبحانَه يذكُرُ في كِتابِه إثباتَ الصِّفاتِ مُفَصَّلًا، والنَّفيَ مجمَلًا
.
قال تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ؛ فالنفيُ جاء مجمَلًا
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وهذه طريقةُ القرآنِ في النَّفيِ غالبًا، قال تعالى:
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] ، أي: نَظيرًا يَستَحِقُّ مِثلَ اسمِه، ويُقالُ: مُساميًا يُساميه
.
وقال سُبحانَه:
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] .
أمَّا في الإثباتِ فيأتي التَّفصيلُ:
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، وكآخِرِ سورةِ الحَشرِ:
هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22-24] ، وشَواهِدُ هذا في القُرآنِ كثيرةٌ جِدًّا
.
فطَريقةُ الشِّيعةِ والمُعتَزِلةِ في النَّفيِ المَحضِ لا تَتَّفِقُ مَعَ طَريقةِ القُرآنِ، كما لا تَتَّفِقُ مَعَ الفِطَرِ السَّليمةِ والعُقولِ الصَّريحةِ، بل هي مُنكَرةٌ في مَدحِ البَشَرِ للبَشَرِ، فكيف يوصَفُ بها رَبُّ العالَمينَ
؟!