المَطلَبُ الرَّابعُ: الميزانُ
إنَّ نُصوصَ فِرقةِ
الإباضيَّة واضِحةٌ في الكلامِ على الميزانِ، خِلافًا لبقيَّةِ فِرَقِ
الخَوارِجِ، فيعتَقِدُ
الإباضيَّةُ في الميزانِ أنَّه ليس ميزانًا له عمودٌ وكِفَّتانِ ولِسانٌ، كما هو المشهورُ، وإنَّما يُثبِتون وَزنَ اللهِ للنِّيَّاتِ والأعمالِ بمعنى تمييزِه بَينَ الحَسَنِ منها والسَّيِّئِ، وأنَّ اللهَ يفصِلُ بَينَ النَّاسِ في أمورِهم، ويَقِفون عِندَ هذا الحَدِّ.
قال النَّفوسيُّ الإباضيُّ:
فوَزنُ أفاعيلِ العِبادِ تميُّزٌ
ليَنظُرَ في عُقبى مُسيءٍ ومُحسِنِ
وليس بمِيزانِ العُمودِ وكَفِّه
بل الوَزنُ للنِّيَّاتِ من كُلِّ دِينِ
.
وقال السَّالِميُّ:
وما هنالِك ميزانٌ يُقامُ كما
قالوا عَمودٌ وكِفَّاتٌ لِما عُمِلَا
وإنَّما الوَزنُ حَقٌّ منه عزَّ ألمْ
تسمَعْ إلى آيةِ الأعرافِ محتَفِلَا
.
قال الخليليُّ شارِحًا: (الميزانُ كنايةٌ عن فَرزِ الأعمالِ، وتمييزِ خَيرِها وشَرِّها، وبيانِ مَقبولِها ومردودِها؛ فإنَّ اللهَ تعالى هو العليمُ بكُلِّ شيءٍ، ولم يكُنْ في حاجةٍ إلى ميزانٍ حقيقيٍّ لبيانِ الصَّالحاتِ والسَّيِّئاتِ، وإنَّما يَعرِضُ على عبادِه يومَ القيامةِ ما قدَّموا وما أخَّروا، وما أخلَصوا فيه للهِ وما أرادوا به غيرَ وَجهِه، فتقومُ الحُجَّةُ على المسيءِ بإساءتِه، ويَنعَمُ المحسِنُ بنِعمةِ القَبولِ من اللهِ، وهو قولُ أصحابِنا والمُعتَزِلةِ... الوَزنُ ليس هو بميزانٍ مادِّيٍّ، وإنَّما هو ميزانٌ معنويٌّ، وهو الحقُّ والقِسطُ؛ فإنَّ الخَبَرَ هو نَفسُ المخبَرِ عنه، والبَدَلُ هو عَينُ المُبدَلِ منه؛ ولذلك نفى المصنِّفُ -رحمه اللهُ- أن يكونَ المرادُ بالميزانِ ميزانًا مادِّيًّا له عمودٌ وكِفَّتانِ)
.
وقد أراد مَعمَرٌ أن يُوَفِّقَ بَينَ مُعتَقَدِ
الإباضيَّةِ ومُعتَقَدِ أهلِ السُّنَّةِ، فقال: (كُلٌّ من
الإباضيَّةِ وأهلِ السُّنَّةِ مُؤمِنون أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يومَ الجزاءِ يَفصِلُ بَينَ عبادِه، وأنَّ قَولَه تعالى الفَصلُ، ووَزنَه الحَقُّ، وحُكمَه العَدلُ، وكفى هذا لقاءً بَينَهما)
.
ولكِنَّ هذا التَّوفيقَ غيرُ كاملٍ؛ لنَفيِهم حقيقةَ الميزانِ الثَّابتِ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وإن كان هناك اتِّفاقٌ بَينَهم على ما ذُكِر من المعاني الأُخرى.
والواقِعُ أنَّ الآياتِ والأحاديثَ كُلَّها تشيرُ إلى أنَّ هناك ميزانًا تُوضَعُ فيه الحَسَناتُ والسَّيِّئاتُ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى قال:
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] ، ويعتَقِدُ عُلَماءُ السَّلَفِ أنَّه ميزانٌ حقيقيٌّ له لسانٌ وكِفَّتانِ تُوزَنُ به أعمالُ العبادِ
بناءً على الأحاديثِ الوارِدةِ في ذلك؛ فقد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك كُلِّه.
قال الأصفَهانيُّ: (كُلُّ ما أخبر به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من عذابِ القبرِ، ومُنكَرٍ ونَكيرٍ، وغيرِ ذلك من أهوالِ القيامةِ، والصِّراطِ والميزانِ والشَّفاعةِ، والجنَّةِ والنَّارِ: فهو حقٌّ؛ لأنَّه ممكِنٌ، وقد أخبر الصَّادِقُ، فيلزَمُ صِدقُه)
.
وقال ابنُ أبي العِزِّ مُثبِتًا وَزنَ الأعمالِ والعبادِ أنفُسِهم وكِفَّتَيِ الميزانِ: (الذي دلَّت عليه السُّنَّةُ أنَّ ميزانَ الأعمالِ له كِفَّتانِ حِسِّيَّتانِ مُشاهَدتانِ). ثُمَّ استدَلَّ بحديثِ صاحِبِ البِطاقةِ
، قال: (فثَبَت وزنُ الأعمالِ والعامِلِ وصَحائِفِ الأعمالِ، وثبت أنَّ الميزانَ له كِفَّتانِ، واللهُ تعالى أعلَمُ بما وراءَ ذلك من الكيفيَّاتِ)
.
وقد أراد اللهُ تعالى لبيانِ كَمالِ عَدلِه وظُهورِ أمرِه للعِيانِ أن يَنصِبَ الموازينَ القِسطَ ليومِ القيامةِ، فلا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئًا، وإن كان مثقالَ حَبَّةٍ من خَردَلٍ.
وأمَّا نفيُ وَزنِ الأعمالِ بأيِّ حُجَّةٍ من الحُجَجِ، كالقَولِ بأنَّها أعراضٌ لا تَقبَلُ الوزنَ بخِلافِ الأجسامِ؛ فإنَّ هذا قولٌ خاطِئٌ، سَبَبُه قياسُ قُدرةِ اللهِ تعالى بقُدرةِ العبدِ الضَّعيفةِ، فلا يستحيلُ على اللهِ تعالى أن يَزِنَ الأعمالَ وَزنًا ظاهِرًا يُرى للعِيانِ، بل ويُوزَنُ العبدُ نَفسُه، كما جاء عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّه لَيأتي الرَّجُلُ العظيمُ السَّمينُ يومَ القيامةِ لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَناحَ بَعوضةٍ. قال: اقرَؤوا إن شِئتُم فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] ))
.
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شأنِ
عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه حينَ ضَحِك الصَّحابةُ مِن دِقَّةِ ساقَيه:
((والذي نَفسي بيَدِه لَهُما أثقَلُ في الميزانِ من أحَدٍ ))
.