المَطلَبُ الثَّاني: عذابُ القَبرِ
ذكَر أصحابُ المقالاتِ والفِرَقِ أنَّ أكثَرَ
الخَوارِجِ يُنكِرون عذابَ القبرِ، ويَزعُمون أنَّه غَيرُ صحيحٍ، ولم يلتَفِتوا إلى ما جاء فيه من الأحاديثِ الصَّحيحةِ التي تؤكِّدُ ثُبوتَه.
قال
الأشعَريُّ: (
الخَوارِجُ لا يقولون بعذابِ القبرِ، ولا ترى أحدًا يُعَذَّبُ في قبرِهـ)
.
وقال
ابنُ حزمٍ: (ذهب ضِرارُ بنُ عَمرٍو الغطَفانيُّ أحَدُ شُيوخِ
المُعتَزِلةِ إلى إنكارِ عَذابِ القبرِ، وهو قولُ من لَقِينا من
الخَوارِجِ)
.
وأمَّا
الإباضيَّةُ فإنَّهم غيرُ مُتَّفِقين على نفيِ عذابِ القبرِ أو ثُبوتِه، بل انقَسموا إلى فريقينِ؛ فريقٌ يقولُ بثُبوتِه، وآخَرُ ينفيه، وهذا ما ذكَرَه النَّفوسيُّ بقَولِه:
وأمَّا عذابُ القبرِ أثْبَتَ جابِرٌ
وضَعَّفَه بعضُ الأئمَّةِ بالوَهَنْ
.
وأمَّا مَذهَبُ السَّلَفِ في عذابِ القبرِ فهو الاعتقادُ بأنَّ ذلك كائِنٌ لا محالةَ، كما قال اللهُ تعالى في ثبوتِ ذلك عن آلِ فِرعَونَ:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46] .
وقد جاءت الأحاديثُ بصِحَّةِ القولِ بوُجودِ عذابِ القَبرِ أو نعيمِه برواياتٍ عديدةٍ تُوجِبُ الاعتقادَ الجازِمَ بصِحَّةِ وُقوعِه، ومنها:
عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو:
((اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من عذابِ القبرِ، ومن عذابِ النَّارِ، ومن فتنةِ المحيا والمماتِ، ومن فتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ ))
.
وعن البراءِ بنِ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنهما قال:
((خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جنازةِ رَجُلٍ من الأنصارِ فانتَهَينا إلى القَبرِ ولَمَّا يُلْحَدْ، فجلَس رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجلَسْنا حولَه كأنَّما على رُؤوسِنا الطَّيرُ وفي يَدِه عُودٌ يَنكُتُ به في الأرضِ، فرفَع رأسَه فقال: (استَعيذوا باللهِ من عذابِ القبرِ، مرَّتَينِ أو ثلاثًا ))
.
قال ابنُ أبي العِزِّ عن حديثِ البَراءِ الآنِفِ الذِّكرِ: (ذَهَب إلى مُوجِبِ هذا الحديثِ جميعُ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ، وله شواهِدُ من الصَّحيحِ)، ثُمَّ أورد عِدَّةَ شواهِدَ
للبُخاريِّ وأبي حاتمٍ، ثُمَّ قال: (وقد تواترت الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ثبوتِ عذابِ القبرِ ونعيمِه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤالِ الملَكَينِ، فيَجِبُ اعتقادُ ثُبوتِ ذلك والإيمانُ به، ولا يُتكَلَّمُ في كيفيَّتِه؛ إذ ليس للعقلِ وقوفٌ على كيفيَّتِه؛ لكونِه لا عَهْدَ له به في هذه الدَّارِ)
.
فالأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ، وكُلُّها تدُلُّ دَلالةً واضحةً لا لَبسَ فيها ولا غُموضَ على ثبوتِ عذابِ القبرِ؛ فالإيمانُ بذلك من الضَّرورياتِ المُسَلَّمةِ.
وأمَّا إنكارُ عذابِ القَبرِ بحُجَّةِ أنَّ المَيِّتَ يفنى فيه ويُصبِحُ تُرابًا، أو بحُجَّةِ أنَّ من أُحرِقَ أو أكلَتْه السِّباعُ لا يمكِنُ تَعذيبُه، فإنَّه أمرٌ لا ينبغي اعتبارُه في مقابلةِ النُّصوصِ الثَّابتةِ؛ إذ إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قادِرٌ على أن يُعَذِّبَ الميِّتَ ويُحاسِبَه في أيِّ صورةٍ كان؛ فإنَّ التَّعذيبَ ليس على الجَسَدِ المعهودِ فَقط، فإذا ذهب انتهى عذابُه، وإنَّما الرُّوحُ تُعَذَّبُ أو تُنَعَّمُ قَبلَ يومِ القيامةِ، ولا مانِعَ في قدرةِ اللهِ أن يَصِلَ العذابُ إلى الجسَدِ بأيِّ طريقةٍ، وعلى أيِّ نحوٍ كان؛ لأنَّ (عذابَ القَبرِ يكونُ للنَّفسِ والبَدَنِ جميعًا باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، تُنعَّمُ النَّفسُ وتُعَذَّبُ مُفرَدةً عن البَدَنِ ومتَّصِلةً بهـ)
، وليس على اللهِ شيءٌ مُستحيلًا.