الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: الغَرَرُ الجائِزُ


الفَرْعُ الأوَّلُ: الغَرَرُ في التَّابِعِ غَيرِ المَعقودِ عليه أصالةً
يَجوزُ الغَرَرُ في البَيعِ إذا كانَ تَبَعًا ولَم يَكُن مَعقودًا عليه أصالةً.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهُما: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن باعَ نَخْلًا قد أُبِّرَت فثَمَرُها للبائِعِ، إلَّا أن يَشتَرِطَ المُبتاعُ )) أخرجه البخاري (2204) واللَّفظُ له، ومسلم (1543).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجازَ لِمَن باعَ نَخلًا قد أُبِّرَت أن يَشتَرِطَ المُبتاعُ ثَمَرَتَها، فيَكونُ قدِ اشتَرى ثَمَرةً قَبلَ بُدُوِّ صَلاحِها، لكِن تَبَعًا للأصلِ، وهو بَيعُ النَّخلِ، فظَهَرَ أنَّهُ يَجوزُ مِنَ الغَرَرِ اليَسيرُ ضِمنًا وتَبَعًا ما لا يَجوزُ مِن غَيرِه ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (4/18).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجْماعَ على بَعْضِ صُوَرِه: ابنُ قُدامةَ قال ابنُ قُدامةَ: (فصلٌ: وبَيعُ الثَّمَرةِ قَبلَ بُدُوِّ صَلاحِها مِن غَيرِ شَرطِ القَطعِ، على ثَلاثةِ أضرُبٍ: أحَدُها: أن يَبيعَها مُفرَدةً لِغَيرِ مالِكِ الأصلِ، فهَذا الضَّربُ الَّذي ذَكَرْنا حُكْمَه، وبَيَّنَّا بُطلانَه. الثَّاني: أن يَبيعَها مَعَ الأصلِ، فيَجوزُ بِالإجماعِ) ((المغني)) (4/63). ، والنَّوَويُّ قال النَّوَويُّ: (إذا باعَ حامِلًا بيعًا مُطلَقًا، دَخلَ الحَملُ في البَيعِ بِالإجماعِ) ((المجموع)) (9/324). وقال أيضًا: (أجمَعَ المُسْلِمونَ على جَوازِ بيعِ حَيَوانٍ في ضَرعِه لَبَنٌ وإن كانَ اللَّبنُ مَجهولًا؛ لِأنَّه تابِعٌ لِلحَيَوانِ، ودَليلُه مِنَ السُّنَّة حَديثُ المُصرَّاةِ) ((المجموع)) (9/326). وقال: (فأمَّا ما تَدعو إلَيه الحاجةُ ولا يُمكِنُ الِاحتِرازُ عَنه، كأساسِ الدَّارِ، وشِراءِ الحامِلِ مَعَ احتِمالِ أنَّ الحَملَ واحِدٌ أو أكثَرُ، وذَكَرٌ أو أُنثَى، وكامِلُ الأعضاءِ أو ناقِصُها، وكَشِراءِ الشَّاةِ في ضَرعِها لَبَنٌ، ونَحوِ ذلك؛ فهَذا يَصِحُّ بيعُه بِالإجماعِ، ونَقلَ العُلَماءُ الإجماعَ أيضًا في أشياءَ غَرَرُها حَقيرٌ (مِنها) أنَّ الأمَّةَ أجمَعَت على صِحَّةِ بيعِ الجُبَّةِ المَحشوَّةِ وإن لَم يُرَ حَشْوُها، ولَو باعَ حَشْوَها مُنفَرِدًا لَم يَصِحَّ، وأجمَعوا على جَوازِ إجارةِ الدَّارِ وغَيرِها شَهرًا مَعَ أنَّه قَد يَكونُ ثَلاثينَ يَومًا وقَد يَكونُ تِسعةً وعِشرينَ، وأجمَعوا على جَوازِ دُخولِ الحَمَّامِ بِأُجرةٍ وعلى جَوازِ الشُّربِ مِن ماءِ السِّقاءِ بعِوَضٍ، مَعَ اختِلافِ أحوالِ النَّاسِ في استِعمالِ الماءِ أو مُكْثِهم في الحَمَّامِ) ((المجموع)) (9/258).
ثالِثًا: لأنَّهُ إذا باعَ التَّابِعَ مَعَ الأصلِ حَصَلَت تَبَعًا في البَيعِ، فلَم يَضُرَّ احتِمالُ الغَرَرِ فيها، كَما احتُمِلَتِ الجَهالةُ في بَيعِ اللَّبَنِ في الضَّرعِ مَعَ بَيعِ الشَّاةِ، والنَّوى في التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ، وأساساتِ الحِيطانِ في بَيعِ الدَّارِ ((المغني)) لابن قدامة (4/63).
الفَرْعُ الثَّاني: الغَرَرُ اليَسيرُ في البَيْعِ مَثَّلَ لَه العُلَماءُ بِأساسِ الدَّارِ؛ فإنَّ الدَّارَ تُشتَرَى مِن غَيرِ مَعَرِفةِ عُمقِ الأساسِ ولا عَرْضِه ولا مَتانَتِه، ومَثَّلوا لَه أيضًا بِإجارةِ البَيتِ بِالشَّهرِ مَعَ احتِمالِ نُقصانِ الشُّهورِ، وبِبَيعِ الجُبَّةِ المَحشُوَّةِ أوِ اللِّحافِ المَحشُوِّ، ولَم يَرَ المُشتَري حَشْوَها.
يَجوزُ الغَرَرُ اليَسيرُ في عَقدِ البَيْعِ ومِن ذلك البُوفِيه المَفتوحُ؛ فيَجوزُ الأكلُ مِنَ البُوفِيه المَفتوحِ نَظيرَ مَبلَغٍ مُعَيَّنٍ يَتِمُّ سَدادُه قَبلَ الأكلِ أو بَعْدَه. لِأنَّه مِنَ الغَرَرِ اليَسيرِ الَّذي يُتَسامَحُ فيه بينَ المُتَعاقِدَينِ عادةً، فلا يَكونُ مِنَ الغَرَرِ المُحَرَّمِ. ومَعنَى البُوفيه -وأصلُه فرَنسيٌّ- هوَ: خِزانةٌ خاصَّةٌ بِأدَواتِ المائِدةِ في غُرفةِ الطَّعامِ، ثُمَّ أصبَحَ يُطلَقُ على أطعِمةٍ مَوضوعةٍ على المائِدةِ يَأخُذُ مِنها الآكِلونَ بِأنفُسِهم حَسَبَ رَغبَتِهم نَظيرَ مَبلَغٍ مُعَيَّنٍ يَتِمُّ سَدادُه قَبلَ الأكلِ أو بعدَه. يُنظر: ((معجم الدخيل)) لـ ف. عبد الرحيم (ص: 72).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ )) أخرجه مسلم (1513).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ البَيعَ لا يُوصَفُ بأنَّهُ بَيعُ غَرَرٍ حَتَّى يَكونَ الغَرَرُ ظاهِرًا فيه وغالِبًا عليه، فيَكونُ البَيعُ الَّذي فيه غَرَرٌ يَسيرٌ باقيًا على أصلِ الإباحةِ ينظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (9/385).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجْماعَ على ذلك: القاضي عَبدُ الوَهَّابِ قال القاضي عَبدُ الوَهَّابِ: (لا خِلافَ أنَّ يَسيرَه لا يَمنَعُ صِحَّةَ البَيعِ) ((المعونة على مذهب عالم المدينة)) (ص: 1032). ، وابنُ عَبدِ البَرِّ قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (لا يَختَلِفونَ في جَوازِ قَليلِ الغَرَرِ؛ لِأنَّه لا يَسلَمُ مِنه بَيعٌ، ولا يُمكِنُ الإحاطةُ بِكُلِّ المَبيعِ، لا بِنَظَرٍ ولا بِصِفةٍ...) ((الاستذكار)) (6/338). ، والمازريُّ قال المازريُّ: (العُلَماءُ أجمَعوا على فسادِ بعضِ بياعاتِ الغَرَرِ، وأجمَعوا على صِحَّةِ بعضِها، واختَلَفوا في بعضِها؛ فيَجِبُ أن يُبحَثَ عَنِ الأصلِ الَّذي يُعرَفُ مِنه اتِّفاقُهم واختِلافُهم، فنَقولُ: إنَّا لَمَّا رَأيناهم أجمَعوا على مَنعِ بيعِ الأجِنَّةِ، والطَّيرِ في الهَواءِ، والسَّمَكِ في الماءِ، ثُمَّ رَأيناهم أجمَعوا على جَوازِ بيعِ الجُبَّةِ وإن كانَ حَشوُها مُغَيَّبًا عَنِ الأبصارِ ولَو بِيعَ حَشْوُها على انفِرادِه لَم يَجُزْ، وأجمَعوا على جَوازِ إجارةِ الدَّارِ مُشاهَرةً مَعَ جَوازِ أن يَكونَ الشَّهرُ ثَلاثينَ أو تِسعًا وعِشرينَ، وأجمَعوا على دُخولِ الحَمَّامِ مَعَ اختِلافِ النَّاسِ في استِعمالِ الماءِ وطولِ لُبْثِهم في الحَمَّامِ، وعلى الشُّربِ مِنَ السَّاقي مَعَ اختِلافِ عاداتِ النَّاسِ فيه أيضًا... ولَمَّا رَأيناهم أجمَعوا على جَوازِ المَسائِلِ الَّتي عَدَدْناها قُلنا: لَيسَ ذلك إلَّا لِأنَّ الغَرَرَ فيها نَزْرٌ يَسيرٌ غَيرُ مَقصودٍ، وتَدعو الضَّرورةُ إلَى العَفْوِ عَنه) ((المعلم بفوائد مسلم)) (2/243). ، وابنُ العَرَبيِّ قال ابنُ العَرَبيِّ: (لا خِلافَ بينَ العُلَماءِ في أنَّ يَسيرَ الغَرَرِ لَغْوٌ مَعْفوٌّ عنه) ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) (ص: 814). ، وابنُ رُشدٍ الحَفيدُ قال ابنُ رُشد الحَفيدُ: (الفُقَهاءُ مُتَّفِقونَ على أنَّ الغَرَرَ الكَثيرَ في المَبيعاتِ لا يَجوزُ، وأنَّ القَليلَ يَجوزُ) ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) (ص: 814). ، والقَرافيُّ قال القرافيُّ: (ثُمَّ الغَرَرُ والجَهالةُ ثَلاثةُ أقسامٍ: كثيرٌ مُمتَنِعٌ إجماعًا، كالطَّيرِ في الهَواءِ؛ وقَليلٌ جائِزٌ إجماعًا، كأساسِ الدَّارِ وقُطْنِ الجُبَّةِ) ((الفروق)) (3/265، 266). والنَّوَويُّ قال النَّوَويُّ: ((فأمَّا) ما تَدعو إلَيه الحاجةُ ولا يُمكِنُ الِاحتِرازُ عَنه كأساسِ الدَّارِ وشِراءِ الحامِلِ مَعَ احتِمالِ أنَّ الحَملَ واحِدٌ أو أكثَرُ، وذَكَرٌ أو أنثَى، وكامِلُ الأعضاءِ أو ناقِصُها، وكَشِراءِ الشَّاةِ في ضَرعِها لَبَنٌ، ونَحو ذلك؛ فهَذا يَصِحُّ بيعُه بِالإجماعِ، ونَقلَ العُلَماءُ الإجماعَ أيضًا في أشياءَ غَرَرُها حَقيرٌ) ((المجموع)) (9/258). ، والدَّرديرُ قال الدَّرديرُ: (واغتُفِرَ غَرَرٌ يَسيرٌ إجماعًا للحاجةِ، أي: لِلضَّرورةِ، كأساسِ الدَّارِ؛ فإنَّها تُشتَرَى مِن غَيرِ مَعرفةِ عُمقِه ولا عَرضِه ولا مَتانَتِه، وكَإجارَتِها مُشاهرةً مَعَ احتِمالِ نُقصانِ الشُّهورِ، وكَجُبَّةٍ مَحشوَّةٍ أو لِحافٍ، والحَشْوُ مُغَيَّبٌ، وشُربٍ مِن سِقاءٍ، ودُخولِ حَمَّامٍ مَعَ اختِلافِ الشُّربِ والِاستِعمالِ) ((الشرح الكبير)) (3/60).
ثالِثًا: لأنَّ البُيوعَ لا تَنفَكُّ عنِ الغَرَرِ اليَسيرِ، وكُلُّ بَيعٍ لا بُدَّ فيه مِن نَوعٍ مِنَ الغَرَرِ، لكِنَّهُ لَمَّا كانَ يَسيرًا غَيرَ مَقصودٍ لم يَلتَفِتِ الشَّرعُ إليه، وقد أجمَعَ المُسلِمونَ على جَوازِ إجارةِ العَبدِ والدَّارِ، مع جَوازِ المَوتِ وهَدمِ الدَّارِ قَبلَ ذلك، وعلى جَوازِ إجارةِ الدُّخولِ في الحَمَّامِ مَعَ تَفاوُتِ النَّاسِ فيما يَتَناوَلونَ مِنَ الماءِ، وفي قَدْرِ المُقامِ فيه، وكَذلك الشُّربُ مِنَ السِّقاءِ مَعَ اختِلافِ أحوالِ النَّاسِ في قَدْرِ المَشروبِ ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (4/ 362): وينظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (9/385).
رابعًا: لأنَّه لا يمكِنُ الإحاطةُ بكُلِّ المَبيعِ، لا بنَظَرٍ، ولا بصِفةٍ ((الاستذكار)) لابن عبد البر (6/338).

انظر أيضا: