الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: الغَرَرُ المَمنوعُ


الفَرْعُ الأوَّلُ: الغَرَرُ الكَثيرُ
يَحرُمُ الغَرَرُ الكثيرُ في عُقودِ البَيْعِ ويَقَعُ الغَرَرُ في عَقْدِ البَيعِ، وفي شُروطِ البَيعِ، وفي المَبيعِ نَفسِه. ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/46)، ((العناية)) للبابرتي (6/411). ، والمالِكيَّةِ ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (5/133)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/25، 29). ، والشَّافِعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (9/411)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/12). ، والحَنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/361، 362)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/11). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابنُ عَبدَ البَرِّ: (كثيرُ الغَرَرِ لا يَجوزُ بِإجماعٍ وقَليلُه مُتَجاوَزٌ عَنه؛ لِأنَّه لا يَسلَمُ بيعٌ مِن قَليلِ الغَرَرِ) ((الاستذكار)) (7/409). قال ابنُ رَشد: (فالفُقَهاءُ مُتَّفِقونَ على أنَّ الغَرَرَ الكَثيرَ في المَبيعاتِ لا يَجوزُ، وأنَّ القَليلَ يَجوزُ، ويَختَلِفونَ في أشياءَ مِن أنواعِ الغَرَرِ، فبَعضُهم يُلحِقُها بِالغَرَرِ الكَثيرِ، وبَعضُهم يُلحِقُها بِالغَرَرِ القَليلِ المُباحِ؛ لِتَرَدُّدِها بينَ القَليلِ والكَثيرِ) ((بداية المجتهد)) (3/173). وقال القرافيُّ: (ثُمَّ الغَرَرُ والجَهالةُ ثَلاثةُ أقسامٍ: كثيرٌ مُمتَنِعٌ إجماعًا، كالطَّيرِ في الهَواءِ؛ وقَليلٌ جائِزٌ إجماعًا، كأساسِ الدَّارِ وقُطنِ الجُبَّةِ) ((الفروق)) (3/265، 266). وقال النَّوَويُّ: ((فأمَّا) ما تَدعو إلَيه الحاجةُ ولا يُمكِنُ الِاحتِرازُ عَنه، كأساسِ الدَّارِ، وشِراءِ الحامِلِ مَعَ احتِمالِ أنَّ الحَمْلَ واحِدٌ أو أكثَرُ، وذَكَرٌ أو أنثَى، وكامِلُ الأعضاءِ أو ناقِصُها، وكَشِراءِ الشَّاةِ في ضَرعِها لَبَنٌ، ونَحوِ ذلك: فهَذا يَصِحُّ بيعُه بِالإجماعِ، ونَقلَ العُلَماءُ الإجماعَ أيضًا في أشياءَ غَرَرُها حَقيرٌ) ((المجموع)) (9/258). خالَف في ذلك ابنُ سِيرينَ وشُرَيحٌ، وقالا بِأنَّ الغَرَرَ في المُعامَلاتِ لَيسَ بِحَرامٍ.  فعَنِ ابنِ أبي شَيبةَ قال: (حَدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابنِ عَونٍ، عَنِ ابنِ سِيرينَ، قال: لا أعلَمُ بِبَيعِ الغَرَرِ بأسًا) ((مصنف ابن أبي شيبة)) (4/ 312). وقال ابنُ حَزْمٍ: (ومِن طَريقِ الحَجَّاجِ بْنِ مِنهالٍ، أخبَرَنا حَمَّادُ بنُ زَيدٍ، عَن أيوبَ السَّختيانيِّ، أنَّ مُحَمَّدَ بنَ سيرينَ كانَ لا يَرَى بأسًا بِشِراءِ العَبْدِ الآبِقِ، إذا كانَ عِلْمُهما فيه واحِدًا) ((المحلى)) (7/290). وقال ابنُ حَجَرٍ: (رَوَى الطَّبَريُّ، عَنِ ابنِ سِيرينَ بِإسنادٍ صَحيحٍ، قال: لا أعلَمُ بِبَيعِ الغَرَرِ بأسًا... ما رواه ابنُ المُنذِرِ عَنه أنَّه قال: لا بأسَ بِبَيعِ العَبدِ الآبِقِ إذا كانَ عِلمُهما فيه واحِدًا، فهَذا يَدُلُّ على أنَّه يَرَى بيعَ الغَرَرِ إنْ سلمَ في المالِ) ((فتح الباري)) (4/ 357).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ قال النَّوَويُّ: (بيعُ المُلامَسةِ، وبَيعُ المُنابَذةِ، وبَيعُ حَبَلِ الحَبَلةِ، وبَيعُ الحَصاةِ، وعَسْب الفَحلِ، وأشباهها: مِنَ البُيوعِ الَّتي جاءَ فيها نُصوصٌ خاصَّةٌ هيَ داخِلةٌ في النَّهيِ عَن بيعِ الغَرَرِ، ولَكِن أُفرِدَت بِالذِّكرِ ونُهِيَ عَنها لِكَونِها مِن بياعاتِ الجاهليَّةِ المَشهورةِ). ((شرح مسلم)) (10/ 157).
عن أبي هُرَيرةَ قال: نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ أخرجه مسلم (1513).
 ثانيًا: لأنَّ بَيعَ الغَرَرِ غَيرُ مَأمونِ العاقِبةِ، والبُيوعُ مَبناها على البَيانِ والوُضوحِ ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/46)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/405).
ثالِثًا: لأنَّه يُفضي إلى مَفسَدةِ المَيسِرِ: الَّتي هيَ إيقاعُ العَداوةِ والبَغْضاءِ مَعَ ما فيه مِن أكْلِ المالِ بالباطِلِ الَّذي هو نَوعٌ مِنَ الظُّلمِ، ففي بَيعِ الغَرَرِ ظُلْمٌ وعَداوةٌ وبَغْضاءُ [1064] مجموع الفتاوى (29/ 23).
الفَرْعُ الثَّاني: كَونُ الغَرَرِ في المُعاوَضاتِ الماليَّةِ
يَحْرُمُ الغَرَرُ في عُقودِ المُعاوَضاتِ الماليَّةِ، ولا يَحرُمُ في عُقودِ التَّبَرُّعاتِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (6/15) وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (4/354). ، واختاره ابنُ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (فمَعلومٌ قَطعًا: أنَّ المُساقاةَ والمُزارَعةَ ونَحوَهما مِن جِنسِ المُشارَكةِ، لَيسا مِن جِنسِ المُعاوَضةِ المَحْضةِ، والغَرَرُ إنَّما حُرِّمَ بيعُه في المُعاوَضةِ؛ لِأنَّه أكْلُ مالٍ بِالباطِلِ) ((القواعد النورانية)) (ص 234). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (فإذا كانَ البائِعُ عاجِزًا عَن تَسليمِه، فهوَ غَرَرٌ ومُخاطَرةٌ... وكَذلك سائِرُ عُقودِ المُعاوَضاتِ، بِخِلافِ الوَصيَّةِ؛ فإنَّها تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، فلا غَرَرَ في تَعَلُّقِها بِالمَوجودِ والمَعدومِ، وما يُقْدَرُ على تَسليمِه إليه وما لا يُقْدَرُ، وطَردُه الهِبةَ إذ لا مَحذورَ في ذلك فيها، وقَد صَحَّ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هِبةُ المُشاعِ المَجهولِ) ((إعلام الموقعين)) (2/30). ، وابنُ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: (الشَّيءُ المَجهولُ لا يَجوزُ في المُعاوَضاتِ؛ لِأنَّ باذِلَ العِوَضِ مُخاطِرٌ، وأمرُه بينَ الغُنْمِ والغُرْمِ، أمَّا ما لَيسَ فيه عِوَضٌ، فيجوزُ ولَو كانَ مَجهولًا) ((الشرح الممتع)) (13/269). وقال: (هِبةُ المَجهولِ جائِزةٌ؛ لِأنَّ المَوهوبَ لَه إمَّا غانِمٌ وإمَّا سالِمٌ، بِخِلافِ عُقودِ المُعاوِضاتِ؛ فإنَّ الجَهالةَ فيها تَقتَضي أن يَكونَ فيها إمَّا غانِمًا وإمَّا غارِمًا) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (3/621).
الأدِلَّةُ:
أولًا: مِن السُّنةِ
 عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه رضِيَ اللهُ عنه قالَ: ((كُنَّا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أتَتْه وَفْدُ هَوازِنَ، فقالوا: يا مُحمَّدُ، إنَّا أصْلٌ وعَشيرةٌ، وقدْ نَزَل بنا مِن البَلاءِ ما لا يَخفَى عليك، فامنُنْ علينا، مَنَّ اللهُ عليك، فقال: اختَارُوا مِن أموالِكم أو مِن نِسائِكم وأبنائِكم، فقالُوا: قد خيَّرْتَنا بيْن أحْسابِنا وأموالِنا، بلْ نَختارُ نِساءَنا وأبناءَنا، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّا ما كان لي ولبَنِي عبدِ المُطَّلِبِ فهو لكم ...)) أخرجه أبو داود (2694)، والنسائي (3688) واللفظُ له، وأحمد (6729). صَحَّحه البيهقيُّ في ((السنن الكبرى)) (9/75)، وابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/97)، وابنُ القيِّمِ في ((أعلام الموقعين)) (1/347)، وحسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (3688)، وشعيبٌ الأرناؤوط في ((تخريج مسند أحمد)) (6729).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَّا ما كان لي ولبَنِي عبدِ المُطَّلِبِ فهو لكم )) فيه جوازُ هِبةِ مُشاعٍ، وهو مجهولٌ ((المغني)) لابن قُدامة (6/45)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/30). ، والهِبةُ مِن عُقودِ التبَرُّعاتِ، فلا يَحرُمُ فيه الغَرَرُ.
 ثانيًا: لأنَّ عُقودَ التَّبَرُّعاتِ إن فاتَت على مَن أحسَنَ إليه بها لا ضَرَرَ عليه؛ لأنَّهُ لم يَبذُلْ شَيئًا، وذلك بخِلافِ عُقودِ المُعاوَضاتِ، إذا فات مِنها شَيءٌ بالغَرَرِ والجَهالةِ ضاعَ المالُ المَبذولُ في مُقابَلَتِه؛ فاقتَضَت حِكْمةُ الشَّرعِ مَنعَ الغَرَرِ فيه ((الفروق)) للقرافي (1/151).

انظر أيضا: