الموسوعة الفقهية

المطلب الرَّابع: حيض الحامل


اختلف أهلُ العِلمِ في حَيضِ الحامِلِ على قولينِ مَشهورينِ:
القول الأوّل: أنَّ الحامِلَ يُمكِنُ أن تحيضَ ما لم يثبت طبيًّا أنَّه لا يُمكِنُ أن تحيضَ. ، وهذا مَذهَبُ المالكيَّة ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (2/459)، وينظر: ((المدونة الكبرى)) لسحنون (1/155)، ((القوانين الفقهية)) لابن جُزي (ص: 31). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/347)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/174). ، وروايةٌ عن أحمد قال ابن تيميَّة: (الحاملُ قد تحيضُ، وهو مذهبُ الشافعيِّ، وحكاه البيهقيُّ روايةً عن أحمد، بل حكى أنَّه رجع إليه). ((الاختيارات الفقهية)) (ص:30). ، وبه قالت طائفةٌ من السَّلف منهم: عائشة والزهريُّ، وقتادة، وربيعة، والليث، وإسحاق. ((المحلى)) لابن حزم (1/242)، ((الاستذكار)) لابن عبدِ البَرِّ (1/327)، ((المغني)) لابن قدامة (1/261، 262)، ((المجموع)) للنووي (2/386)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/233). ، واختاره ابن تيميَّة قال ابن تيميَّة: (الحاملُ قد تحيض). ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 30). ، وابن القيِّم قال ابن القيِّم: (النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قسَّم النِّساءَ إلى قسمين: حاملٌ؛ فعِدَّتها وضْعُ حَملِها، وحائلٌ فعِدَّتها بالحيضِ، ونحن قائلون بموجِبِ هذا غيرَ منازَعينَ فيه، ولكن أين فيه ما يدلُّ على أنَّ ما تراه الحامِلُ من الدَّم على عادتِها تصومُ معه وتصلِّي، هذا أمرٌ آخَر لا تعرُّضَ للحديث به). ((زاد المعاد)) (5/736). ، وابن عثيمين قال ابن عثيمين: (الراجحُ أنَّ الحامِلَ إذا رأت الدَّمَ المطَّرِدَ الذي يأتيها على وقتِه، وشَهرِه؛ وحالِه؛ فإنَّه حيضٌ تترك من أجلِه الصلاةَ والصومَ وغير ذلك، إلا أنَّه يختلِفُ عن الحيض في غير الحَملِ بأنَّه لا عبرةَ به في العِدَّة؛ لأنَّ الحمل أقوى منه، والحيض مع الحملِ يجب التحفُّظُ فيه، وهو أنَّ المرأة إذا استمَرَّت تحيض حيضَها المعتادَ على سيرتِه التي كانت قبل الحَملِ، فإننا نحكمُ بأنَّه حيضٌ، أما لو انقطعَ عنها الدَّمُ، ثم عاد وهي حامِلٌ، فإنَّه ليس بحيضٍ) ((الشرح الممتع)) (1/470). وقال أيضًا: (بعضُ النِّساءِ قد يستمرُّ بها الحيضُ على عادته كما كان قبل الحَملِ، فيكون هذا الحيضُ مانعًا لكلِّ ما يمنَعُه حيضُ غيرِ الحامل، وموجِبًا لِما يُوجِبه، ومُسقِطًا لِما يُسقِطه، والحاصل: أنَّ الدَّمَ الذي يخرج من الحامِل على نوعين: النوع الأوَّل: نوعٌ يُحكَم بأنَّه حيضٌ، وهو الذي استمرَّ بها كما كان قبل الحملِ؛ لأنَّ ذلك دليلٌ على أنَّ الحملَ لم يؤثِّر عليه فيكون حيضًا. والنَّوع الثَّاني: دم طرأ على الحامل طروءًا؛ إمَّا بسبب حادثٍ، أو حمْلِ شيءٍ، أو سقوطٍ مِن شيء ونحوه، فهذا ليس بحيضٍ، وإنَّما هو دمُ عِرقٍ، وعلى هذا فلا يمنَعُها من الصَّلاة ولا من الصِّيام؛ فهي في حُكم الطَّاهرات). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/270، 271).
الأدلَّة:
أولًا: أنَّ الدَّمَ الخارِجَ من الفرْج- الذي رتَّب الشَّارعُ عليه الأحكامَ- قِسمان: حيضٌ، واستحاضةٌ، ولم يجعَلْ لهما ثالثًا، وهذا ليس باستحاضةٍ؛ فإنَّ الاستحاضةَ الدَّمُ المُطبق، والزَّائدُ على أكثرِ الحَيضِ، أو الخارجُ عن العادة، وهذا ليس واحدًا منها، فبطَل أن يكون استحاضةً، فهو حيضٌ، ولا يمكِنُ إثبات قِسمٍ ثالث في هذا المحلِّ، وجَعْله دَمَ فسادٍ؛ فإنَّ هذا لا يثبُتُ إلَّا بنصٍّ، أو إجماعٍ، أو دليلٍ يجِبُ المصيرُ إليه، وهو مُنتَفٍ ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/735).
ثانيا: لا نِزاعَ أنَّ الحاملَ قد ترى الدَّمَ على عادتِها، لا سيَّما في أوَّلِ حَملِها، وإنَّما النزاعُ في حُكمِ هذا الدَّمِ، وقد كان حيضًا قبل الحَملِ بالاتِّفاق، فيُستصحَبُ حُكمه، حتى يأتيَ ما يرفَعُه بيقينٍ، والحُكمُ إذا ثبت في محلٍّ، فالأصلُ بقاؤه، حتى يأتيَ ما يرفَعُه ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/734).
القول الثاني: أنَّ الحامِلَ لا تحيضُ، وهذا مَذهَبُ الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/201)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/42). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/110)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/261). ، وبه قال الشافعيُّ في القديم ((المجموع)) للنووي (2/384)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/356). ، وهو قول طائفةٍ من السَّلف منهم: سعيد بن المسيَّب، والحسن، وعطاء، والحَكم بن عُتيبة، والنَّخَعيُّ، والشَّعبيُّ، وحمَّاد بن أبي سليمان، وسليمان بن يَسار، ونافع مولى ابن عمر, وأحد قولي الزُّهريِّ, وهو قول سفيان الثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأبي عُبيد، وأبي ثور. ((المحلى)) لابن حزم (1/242)، ((الاستذكار)) لابن عبدِ البَرِّ (1/327)، ((المغني)) لابن قدامة (1/261). ، واختاره ابنُ المُنذِر قال ابن المُنذِر: (أقربُ القولين إلى تأويل القرآن والسُّنة أنَّ الحامِلَ لا تكون حائضًا) ((الإشراف)) (1/365). ، وابنُ حزم ((المحلى)) (1/404). ، وبه صدرت فتوى اللَّجنة الدَّائمة قالت اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز: (الصَّحيحُ من القولين: أنَّها لا تحيضُ أيَّام حَملِها؛ وذلك أنَّ الله سبحانه جعل من أنواع عدَّةِ المطلَّقة أن تحيضَ ثلاثَ حِيَضٍ؛ ليتبيَّن بذلك براءةُ رَحمِها من الحمْل، ولو كانت الحامِلُ تحيضُ ما صحَّ أن يُجعَلَ الحيضُ عِدَّةً لإثباتِ براءةِ الرَّحِم). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (5/392).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قول الله تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4]
وجه الدَّلالة:
أنَّه جعل عدَّة الحامل أن تضع حملَها، ولم يجعلْه بالحيضِ، ولو كانت تحيضُ لجَعَل عِدَّتَها ثلاثةَ أقراءٍ كغيرِ الحامِل ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (5/392).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن ابن عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه طلَّق امرأتَه وهي حائض، فسأل عمرُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: مُرْه فلْيراجِعْها، ثمَّ لْيطلِّقها طاهرًا أو حاملًا )) رواه مسلم (1471).
وجه الدَّلالة:
أنَّه جعل الحَملَ عَلَمًا على عَدَمِ الحَيضِ ((المغني)) لابن قدامة (1/262).
ثالثًا: أنَّ الله سبحانه أجرى العادةَ بانقلابِ دمِ الطَّمثِ لبنًا وغذاءً للحَملِ، فالخارِجُ وقتَ الحملِ يكون غيرَه، فهو دمُ فسادٍ ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/734).

انظر أيضا: