الموسوعة الفقهية

 المَبحَثُ الأوَّلُ: حُكمُ صِلةِ الرَّحِمِ


صِلةُ الأرحامِ واجِبةٌ في الجُملةِ، وقَطْعُها حرامٌ [1325]   وهذا يَشمَلُ الفاسِقَ؛ لأنَّ نُصوصَ العُلَماءِ تُفَرِّقُ بين المؤمِنِ والكافِرِ، ولا تذكُرُ الفاسِقَ إلَّا نادِرًا؛ لدُخولِه في مُسمَّى المؤمنينَ، أمَّا الفاسِقُ المعلِنُ بفِسقِه والدَّاعي إليه، والذي يُخافُ شَرُّه وفسادُه؛ فحَقُّه النُّصحُ، فإنْ لم يرعَوِ فالهَجرُ. يُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/292)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/427)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (61/357). ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ [1326]   الشَّافِعيَّةُ يَرَونَ صِلةَ الأقارِبِ ابتداءً سُنَّةً مَندوبةً، ويَرَونَ قَطْعَها حَرامًا. يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/422)، ((حاشية البجيرمي)) (3/272). والحَنَفيَّةُ يُفَرِّقونَ بينَ الرَّحِمِ المَحْرَمِ وغَيرِ المَحْرَمِ، فيوجِبونَ الأوَّلَ دونَ الثَّاني. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/201). : الحَنَفيَّةِ [1327]   ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/201)، ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (6/411). ، والمالِكيَّةِ [1328]   ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/292)، ((حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني)) (2/557). ، والحَنابِلةِ [1329]   ((غذاء الألباب)) للسفاريني (1/352، 353). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [1330]   قال القاضي عياض:  (ولا خِلافَ أنَّ صِلةَ الرحَّمِ واجِبةٌ على الجُملةِ، وقَطْعَها كبيرةٌ). ((إكمال المعلم)) (8/ 20). وقال القرطبي: (اتَّفَقَت المِلَّةُ على أنَّ صِلةَ الرَّحِمِ واجِبةٌ، وأنَّ قَطيعتَها مُحَرَّمةٌ). ((تفسير القرطبي)) (5/6). وقال العدوي: (أجمَعَت الأمَّةُ على أنَّ صِلةَ الرَّحِمِ فَرضُ عَينٍ، مَن تركَها فهو عاصٍ). ((حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني)) (2/427). وقال النفراوي: (الإجماعُ دَلَّ على فرضيَّةِ صِلةِ الرَّحِمِ، مَن تركها يكونُ عاصيًا). ((الفواكه الدواني)) (2/292). وخالف الشَّافِعيَّةُ فقالوا: صِلةُ الأقارِبِ ابتداءً سُنَّةٌ مندوبةٌ، وقَطعُها حرامٌ. يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/422)، ((حاشية البجيرمي على الخطيب)) (3/272، 273).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]
2- قال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25]
3- قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]
ثانيا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها -زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الرَّحِمُ شِجْنةٌ، فمَن وصَلَها وصَلْتُه، ومَن قَطَعها قطَعْتُه )) [1331]   أخرجه البخاري (5989) واللفظ له، ومسلم (2555).
2- عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الله خلَقَ الخَلْقَ، حتى إذا فرَغَ مِن خَلْقِه، قالت الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائِذِ بك مِنَ القَطيعةِ، قال: نَعَمْ، أمَا تَرضَينَ أن أصِلَ مَن وصلَكِ، وأقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالت: بلى، يا رَبِّ. قال: فهو لَكِ )) [1332]   أخرجه البخاري (5987)، ومسلم (2554).
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من كان يؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلْيُكْرِمْ ضَيفَه، ومَن كان يؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فلْيَصِلْ رَحِمَه، ومن كان يؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلْيَقُلْ خَيرًا أو لِيَصمُتْ )) [1333]   رواه البخاري (6138).
4- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ليس الواصِلُ بالمكافِئِ، ولكِنَّ الواصِلَ الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وَصَلَها )) [1334]   أخرجه البخاري (5991).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بصِلةِ قاطِعِ الرَّحِمِ، وقاطِعُ الرَّحِمِ فاسِقٌ، وقد أمَرَ بصِلتِه، وجُعِلَت هي الصِّلةَ المطلوبةَ شَرعًا [1335]   ((فتاوى السبكي)) (2/517).
5- عن عمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ جِهارًا غيرَ سِرٍّ: إنَّ آلَ أبي فلانٍ لَيسُوا بأوليائي، إنَّما وليِّيَ اللهُ وصالِحُ المؤمِنينَ، ولكِنْ لهم رَحِمٌ سأبُلُّها بِبَلالِها [1336]   أبُلُّها ببَلالِها: أي: أصِلُها بصِلَتِها والإحسانِ إليها، والأصلُ في معناه أن يقالُ: أُنديها بما يجِبُ أن تُندى؛ لئلَّا تنقَطِعَ، وأصِلُها بما ينبغي أن تُوصَلَ به. ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/3081). ) [1337]   أخرجه البخاري (5990).
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحديثِ دَليلٌ على أنَّ الأولياءَ هم أهلُ الإيمانِ والصَّلاحِ، وأنَ ذَوي الأرحامِ يُوصَلون على أيِّ حالٍ كانوا [1338]   ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/3081).
6- عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: ((أنَّ رَجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويَقطَعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئونَ إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عليَّ، فقال: لئِنْ كُنتَ كما قُلتَ، فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ [1339]   المَلُّ: الرَّمادُ الحارُّ. ومعناه: كأنَّما تُطعِمُهم الرَّمادَ الحارَّ، وهو تشبيهٌ لِما يَلحَقُهم من الألمِ بما يَلحَقُ آكِلَ الرَّمادِ الحارِّ مِن الألمِ. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 115). ، ولا يزالُ معك مِنَ اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك )) [1340]   أخرجه مسلم (2558).

انظر أيضا: