الموسوعة الفقهية

المطلب الثاني: كيفيَّةُ الدَّفْنِ 


الفرع الأوَّلُ: ما يُسَنُّ قولُه عند إدخالِ المَيِّتِ القَبرَ
يُستحَبُّ أن يقولَ الذي يُدْخِلُ المَيِّتَ القَبرَ حين يَضَعُه في قَبرِه: بِاسْمِ اللهِ، وعلى مِلَّةِ رَسولِ اللهِ، أو على سُنَّةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8673] ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/93)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 225). ، والمالِكيَّة [8674] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/233). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/130). ، والشَّافعيَّة [8675] ((المجموع)) للنووي (5/292)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/331) ، والحَنابِلَة [8676] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/383)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/134). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/373).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أَدْخَلَ المَيِّتَ القَبرَ، قال: ((باسمِ الله، وعلى مِلَّةِ رسولِ اللهِ)) [8677] أخرجه الترمذي (1046)، وابن ماجه (1550) واللفظ له.  قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وقال النووي في ((الخلاصة)) (2/1018): إسناده حسن أو صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1270).
وفي لفظٍ: عن ابنِ عُمَرَ: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا وضَعَ المَيِّتَ في القَبرِ قال: باسمِ الله، وعلى سنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [8678] أخرجه أبو داود (3213)، والترمذي (1046)، وابن حبان (3109)، والطبراني (13/255) (14007)، والحاكم (1354) قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه، و قال النووي في ((الخلاصة)) (2/1018): إسناده حسن أو صحيح، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/236): إسناده على شرطهما، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/690): أُعِلَّ بالوقف، وتفرَّد برفعه همَّام عن قتادة عن أبي الصِّديق عن ابن عمر، ووقفه سعيد وهشام، فرجح الدارقطني، وقبله النسائي: الوقف. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3213).
وفي لفظٍ: عن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا وَضَعْتُم موتاكم في القُبورِ فقولوا: بِاسْمِ اللهِ، وعلى ملَّةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)) [8679] أخرجه أحمد (4990)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10927)، والبزار (5826). قال عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (2/535): أوقفه شعبة عن قتادة. وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (7/84)، وصححه على شرط الشيخين الألباني في ((أحكام الجنائز)) (192).
الفرع الثاني: صفةُ وَضْعِ المَيِّت في القَبرِ
المسألة الأولى: وضْعُ المَيِّتِ على شِقِّه الأيمنِ
يُستَحَبُّ أن يُجعَلَ المَيِّتُ في قَبرِه على جَنْبِه الأيمنِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8680] ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 225). ويُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (2/139). ، والمالِكيَّة [8681] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/233). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/130). ، والشَّافعيَّة [8682] ((المجموع)) للنووي (5/293)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/353) ، والحَنابِلَة [8683] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/383)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ هذه سنَّةُ النائِمِ، وهو يُشْبِهُه [8684] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137).
ثانيًا: اتِّباعًا للسَّلَف والخَلَف؛ فقد جرى عليه عملُ أهْلِ الإسلامِ منذ عهْدِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم [8685] ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/326). وقال ابن حزم: (ويُجْعَل المَيِّتُ في قَبْرِه على جَنْبِه اليمينِ، ووجهُه قُبالةَ القبلةِ، ورَأْسُه ورجلاه إلى يمينِ القبلةِ، ويسارها، على هذا جرى عمَلُ أهلِ الإسلامِ مِن عَهْدِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يَوْمِنا هذا). ((المُحَلَّى)) (3/404).
ثالثًا: قياسًا على المُصَلِّي مُضطجعًا [8686] ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/326).
المسألة الثانية: أن يكون المَيِّتُ مُستقبِلَ القبلةِ
يُشْرَع وَضْعُ المَيِّتِ في القَبرِ مُستقبِلَ القبلةِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8687] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/245)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 225). وقال في حاشية الطحطاوي: (قوله (ويُوجَّه إلى القبلة) وجوبًا؛ كما في الدُّرِ، أو اسْتِنانًا كما في ابنِ أمير حاج عن الإمام؛ فلو وُضِعَ لغيرِ القبلةِ أو على يسارِه، ثم تذكَّروا، قال الإمامُ إن كان بعد تسريجِ اللَّبِنِ قَبْلَ أن ينهالَ التُّرابُ عليه أزالوا ذلك، ووُجِّهَ إليها على يَمينِه، وإن أهالوا الترابَ لا يُنْبَشُ القَبْر؛ لأنَّ ذلك سنَّةٌ، والنَّبْش حرامٌ). ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 403)، وينظر: ((الدر المختار)) للحصكفي مع ((حاشية ابن عابدين)) (2/235، 236). ، والمالِكيَّة [8688] ((منح الجليل)) لعليش (1/501). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/130). وهو على الاستحبابِ عندهم، قال العدوي في حاشيته: ([قوله: على جِهَةِ الاستحبابِ... إلخ] يُفهِم أنَّ مجموعَ ما ذُكِرَ من الجَعلِ على الشِّقِّ الأيمن مع كونِه إلى القبلةِ؛ مستحَبٌّ واحدٌ، وكذا ظاهِرُ خليل؛ حيث قال: وضَجْعٌ فيه على أيمَنَ مُقْبِلًا، والظاهِرُ أنَّهما مستحبَّان، وحُرِّر). ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/421). ، والشَّافعيَّة [8689] ((المجموع)) للنووي (5/293)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/353). وهو على الوجوب عند الشافعية. ، والحَنابِلَة [8690] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/383)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137). وهو على الوُجوبِ عند الحنابِلَةِ.
وذلك للآتي:
أولًا: تنزيلًا له مَنزلةَ المُصَلِّي [8691] ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/38).
ثانيًا: لئلَّا يُتَوَهَّم أنَّه غيرُ مُسْلمٍ [8692] ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/38).
ثالثًا: لأنَّ ذلك طريقةُ المُسلمينَ بنَقْلِ الخَلَفِ عَنِ السَّلَف [8693] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137).
المسألة الثالثة: إدناءُ المَيِّت من حائِطِ القبرِ أو إسنادُه مِنَ الأمامِ
يُستحَبُّ أن يُسْنَدَ المَيِّتُ مِن أمامِه، أو يُدْنَى من الحائِطِ؛ نصَّ عليه المالِكيَّة [8694] ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/421)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/130)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/559). ، والشَّافعيَّة [8695] ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/353)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/7) ، والحَنابِلَة [8696] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/373)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137). ؛ وذلك لئلَّا ينكَبَّ على وَجْهِه [8697] ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/353)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137)
المسألة الرابعة: أن يُسْنَدَ مِن ورائِه
يُستحَبُّ أن يُسند الميِّت من ورائه بتُرابٍ، أو لَبِنٍ ، أو غير ذلك، وهو مذهَبُ الجمهورِ: المالِكيَّة [8698] ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/421)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/130)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/559). ، والشَّافعيَّة [8699] ((المجموع)) للنووي (5/293)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/39). ، والحَنابِلَة [8700] ((الإقناع)) للحجاوي (1/232)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137). ، وهو قَولُ بعض الحَنفيَّة [8701] ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 404). ؛ وذلك حتى لا يَسْتَلقِيَ على قفاه [8702] ((المهذَّب)) للشيرازي (1/255).
الفرع الثالث: حَلُّ عُقَدِ الكَفَن في القَبر
تُحَلُّ عُقَدُ الكَفَنِ في القَبرِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8703] ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ)) (1/245)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 225). ، والمالِكيَّة [8704] ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/32). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/130). ، والشَّافعيَّة [8705] ((المجموع)) للنووي (5/204)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/339). قالوا: لأنَّه يُكرَهُ أن يكونَ في القَبرِ شَيءٌ مَعقودٌ. ، والحَنابِلَة [8706]((كشاف القناع)) للبهوتي (2/107). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/375). وقال الحنابلة: حلُّ العُقَدِ مَسنونٌ.
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ عَقْدَها كان للخَوْفِ من انتشارِها، وقد أُمِنَ ذلك بِدَفْنِه [8707] ((المغني)) لابن قدامة (2/375).
ثانيًا: أنَّه كان معروفًا لدى السَّلَف [8708] قال الألباني: (ساق [أي ابن أبي شيبة] في البابِ آثارًا أخرى عن بعضِ التَّابعينَ لا تخلو من ضَعفٍ، لكنَّ مجموعَها يُلْقِي الاطمئنانَ في النَّفْسِ أنَّ حَلَّ عُقَدِ كَفَنِ المَيِّتِ في القَبرِ كان معروفًا عند السَّلَف). ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (4/247).
الفرع الرابع: حُكمُ الحَثَيَاتِ على القَبرِ بعد الدَّفْنِ
يُستَحَبُّ لِمَن حَضَرَ دَفْنَ الميِّتِ أن يَحْثُوَ في قَبرِه ثلاثَ حَثَيَاتٍ من قِبَل رأسِه، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8709] ((الفتاوى الهندية)) (1/166)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/245). ، والمالِكيَّة [8710] ((الشرح الكبير)) للدردير (1/418). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/129). وقيَّدوا ذلك بمن كان قريبًا من القَبْرِ. ، والشَّافعيَّة [8711] ((المجموع)) للنووي (5/293). ويُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/327). وقيَّدوا ذلك بمن كان قريبًا من القَبْرِ. ، والحَنابِلَة [8712] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/384)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/137)،
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((صلَّى رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم على جِنازةٍ فكبَّر عليها أربعًا، ثمَّ أتى القَبرَ فحَثَى عليه مِن قِبَلِ رأسِه ثلاثًا)) [8713] أخرجه ابن ماجه (1565)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4673) واللفظ له. وقال أبو بكر ابن أبي داود كما في ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (4/155): ليس يُرْوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حديثٌ صحيح أنَّه كبَّرَ على جِنازَة أربعًا إلَّا هذا، وقال الطبراني: لم يَرْوِ هذا الحديثَ عن الأوزاعيِّ إلا سَلمةُ بنُ كلثومٍ؛ تفرَّدَ به يحيى بن صالح، وصحَّح إسناده، وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (6/333): ثابت، وحسنه ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/33)، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/237): إسنادُه لا بأس به، ووثَّقَ رجاله البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/277)، وابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/693) وقال: إسنادُه ظاهِرُه الصحَّة، وصحَّح إسناده الشوكاني في ((الدراري المضية)) (145)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1565).  
ثانيًا: من الآثار
عن عُمَير بنِ سعدٍ (أنَّ عَلِيًّا حَثَى على يزيدَ بنِ المكفف- قال: هو أو غيره- ثلاثًا) [8714] أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف)) (6480)، وابن أبي شيبة (3/331) البيهقي (3/410). صحَّح إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (3/202).
ثالثًا: لِمَا في ذلك من المشاركَةِ في هذا الفَرْضِ [8715] ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/327).
الفرع الخامس: دَفْنُ اثنينِ أو أكثَرَ في القبر
المسألة الأولى: حُكمُ دَفْنِ اثنينِ أو أكثَرَ في القبر
لا يُشْرَع [8716] اختلف أهلُ العلم في حُكْمِ ذلك؛ فمنهم من قال بالتحريمِ، ومنهم من قال بالكراهةِ. أن يُدفَنَ رجلانِ ولا امرأتانِ في قبرٍ واحدٍ إلَّا لضرورةٍ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8717] ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 226، 227). ويُنظر: ((المحيط البرهاني)) لبرهان الدين ابن مَازَةَ (2/193). الحنفية قالوا: (يُكْرَه أن يُدفَنَ اثنانِ في قبرٍ واحدٍ إلَّا لضرورةٍ) ((الاختيار)) للموصلي (1/96). ، والمالِكيَّة [8718] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/235). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/133). المالكيَّة قالوا: يُكْرَه إذا لم يكُن للضَّرورةِ. ، والشَّافعيَّة [8719] ((المجموع)) للنووي (5/284)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/354). الشافعيَّة بعضُهم قال: يُكْرَه إذا لم يكن للضَّرورة، وبعضُهم قال يَحْرُمُ. ، والحَنابِلَة [8720] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/387)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/143). الحنابلة قالوا: يَحْرُم إذا لم يكن للضَّرورةِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن هشام بن عامرٍ، قال: شَكَوْنا إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ أُحُدٍ، فقلنا: يا رسولَ اللهِ، الحفْرُ علينا لكلِّ إنسانٍ؛ شديدٌ! فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((احْفِروا وأَعْمِقوا وأَحْسِنوا، وادفِنوا الاثنينِ والثلاثةَ في قبرٍ واحدٍ )) [8721] أخرجه أبو داود (3215)، والترمذي (1713)، والنسائي (2010) واللفظ له، وابن ماجه (1560)، وأحمد (16296). قال الترمذي: حسن صحيح، واحتجَّ به ابنُ حزمٍ في ((المحلى)) (5/117)، وصحَّحه ابنُ عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/1031)، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (5/295)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2009).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَذِنَ لهم في دَفْنِ أكثَرَ من واحدٍ في قَبرٍ لَمَّا شكا إليه الصَّحابةُ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ المستَقِرَّ عندهم هو أنَّ الميِّت يُفْرَدُ في قَبرِه [8722] قال ابن عبد البر: (وفي الحديثِ مِنَ الفقه أنَّ دَفْنَ الرَّجلينِ والثلاثةِ في قبرٍ لا يكونُ إلَّا من ضرورةٍ؛ كما قال مالك، وإلَّا فالسنَّةُ المنقولةُ بنَقْلِ الكافَّة أن يُدفَنَ كلُّ واحدٍ في قبرٍ، فإن كانت ضرورةٌ كانت في أهلِ أُحُدٍ أسوةٌ حسنةٌ؛ فإنْ قُدِّمَ في القَبرِ إلى القبلةِ الأكبرُ، فلا حَرَجَ). ((الاستذكار)) (5/156).
ثانيًا: لأنَّ دَفْنَ كلِّ ميِّتٍ في قبرٍ بِمُفْرَدِه جرى عليه العَمَلُ إلى يَوْمِنا هذا [8723] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/319).
ثالثًا: أنَّ السُّنَّةَ المنقولةَ بِنَقْلِ الكافَّةِ أن يُدفَنَ كلُّ واحدٍ في قبرٍ [8724] ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/156)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (17/214).
رابعًا: لأنَّ في الجَمعِ إيذاءً للميِّتِ [8725] ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/354).
المسألة الثانية: ترتيبُ الموتى إذا دُفِنوا جميعًا
إذا دُفِنَ أكثرُ من واحدٍ في قبرٍ، يُقَدَّمُ إلى القبلةِ أفضَلُهم، وهو باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8726] ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 221). ويُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (2/130). ، والمالِكيَّة [8727] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/235). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/134). ، والشَّافعيَّة [8728] ((المجموع)) للنووي (5/284)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/354) ، والحَنابِلَة [8729] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/387)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/143).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن جابرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يجمعُ بينَ الرجلُينِ من قتلى أُحُدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقولُ: أيُّهُم أكثرُ أخذًا للقُرآنِ؟ فإذا أُشيرَ لهُ إلى أحدهِما قدَّمهُ في اللَّحدِ، وقال: أنا شهيدٌ على هؤلاءِ يومَ القيامةِ، وأمَرَ بِدفنِهِم في دمائِهِم، ولم يُغَسَّلوا، ولم يُصلَّ عليهِم )) [8730] أخرجه البخاري (1343).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه دلَّ على تقديمِ قارئِ القرآنِ في القَبرِ، ويَلْحَقُ به أهلُ الفضْلِ من الفُقَهاءِ والزُّهَّادِ وغيرِهم [8731] ((فتح الباري)) لابن حجر (3/213).
الفرع السادس: وقْتُ الدَّفْنِ
المسألة الأولى: الدَّفنُ عند طلوعِ الشَّمس وقيامِها وغروبِها
لا يجوزُ الدَّفْنُ في أوقاتٍ ثلاثة: عند طلوعِ الشَّمس، وقيامِها، وغروبها. وهو قولُ ابنِ حَزْمٍ [8732] ((المحلى)) لابن حزم (3/335). واختاره الصنعانيُّ [8733] ((سبل السلام)) للصنعاني (1/113). ، والشوكانيُّ [8734] ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/110). ، وابنُ باز [8735] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/157). ، وابنُ عثيمينَ [8736] ((فتاوى أركان الإسلام)) لابن عثيمين (ص: 411)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/348). ، والألبانيُّ [8737] ((أحكام الجنائز)) للألباني (ص: 130).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن عُقبَةَ بن عامرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((ثلاثُ ساعاتٍ كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ينهانا أن نُصَلِّيَ فيهنَّ، وأن نَقْبُرَ فيهِنَّ موتانا: حين تَطْلُعُ الشَّمْسُ بازغةً حتى ترتفِعَ، وحين يقومُ قائِمُ الظَّهيرةِ حتى تزولَ، وحين تَضَيَّفُ الشَّمْسُ للغُروبِ )) [8738] أخرجه مسلم (831).
وَجهُ الدَّلالةِ:
قولُه: ((وأنْ نَقْبُرَ فيهِنَّ موتانا)) أي: ندفِنَ فيهِنَّ موتانا، والأصل في النَّهيِ التحريمُ، وهو ظاهِرُ الحديثِ [8739] ((شرح أبي داود)) للعيني (6/130)، ((سبل السلام)) للصنعاني (1/113)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/110).
المسألة الثانية: الدَّفنُ ليلًا
يجوز الدَّفْنُ بالليلِ [8740] قال النووي: (لا يُكْرَهُ الدفْنُ باللَّيلِ، لكنَّ المُستَحَبَّ دفْنُه نهارًا؛ قالوا: وهو مَذهَب العلماءِ كافَّةً إلَّا الحسَنَ البصريَّ؛ فإنَّه كَرِهَه). ((المجموع)) (5/302). ، وهو باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة [8741] ((البناية)) للعيني (3/261)، ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين) (2/245). ، والمالِكيَّة [8742] ((التاج والإكليل)) للمواق (2/237). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/136). ، والشَّافعيَّة [8743] ((المجموع)) للنووي (5/302)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/363). ، والحَنابِلَة [8744] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/371)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/128). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/414).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مرَّ بقبرٍ قد دُفِنَ ليلًا، فقال: متى دُفِنَ هذا؟ قالوا: البارحةَ، قال: أفَلَا آذَنْتُموني؟ قالوا: دفنَّاه في ظُلْمَةِ اللَّيلِ، فكَرِهْنا أن نُوقِظَك، فقام، فصَفَفْنا خَلْفَه، قال ابنُ عبَّاس: وأنا فيهم، فصلَّى عليه )) [8745] أخرجه البخاري (1321) واللفظ له، ومسلم (954).
ثانيًا: من الآثار
عن عائِشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها، قالت: (دخَلْتُ على أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه... فلم يُتَوَفَّ حتى أمسى مِن ليلةِ الثلاثاءِ، ودُفِنَ قبل أن يُصْبِحَ) [8746] أخرجه البخاري (1387) واللفظ له، ومسلم (941) دون آخره.
الفرع السابع: تلقينُ المَيِّت، والدُّعاءُ له بعد الدَّفْن
المسألة الأولى: تلقينُ الميِّت
تلقينُ المَيِّت بعد دَفْنه بِدعةٌ، وهو قولُ العِزِّ بنِ عبد السَّلامِ [8747] ((كتاب الفتاوى)) للعز بن عبد السلام (ص: 96). ، والصنعانيِّ [8748] ((سبل السلام)) للصنعاني (2/114). ، وابن بازٍ [8749] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/306). ، وابنِ عثيمينَ [8750] ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (17/75). ، والألبانيِّ [8751] ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للألباني (1/838)، وينظر: ((أحكام الجنائز)) للألباني (ص: 155).
وذلك للآتي:
 أوَّلًا: لِعَدمِ ثبوتِ نصٍّ في ذلك [8752] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/306)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (17/75).
ثانيًا: أنَّه لا فائدةَ منه؛ لأنَّه خَرجَ من دارِ التَّكليفِ إلى دارِ الجزاءِ [8753] ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للألباني (1/838).
 ثالثًا: لأنَّه غيرُ قابلٍ للتذكُّرِ؛ قال تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [8754] ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للألباني (1/838). [يس: 70]
المسألة الثانية: الدُّعاءُ للميِّتِ بعد الدَّفْن
يُستحَبُّ الاستغفارُ للميِّتِ والدُّعاءُ له بالتثبيتِ عند الفراغِ مِن دَفْنِه [8755] لا يُشْرَعُ رفْعُ الصَّوْتِ بالدُّعاءِ للمَيِّتِ عند الدَّفْنِ، ولا الدُّعاءُ الجماعيُّ له؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا فَرَغَ من دفن المَيِّت وَقَفَ عليه وقال: ((استغْفِروا لأخيكم، واسألوا له التَّثبيتَ؛ فإنَّه الآن يُسأَلُ)) ولو كان الدعاءُ بصوتٍ جماعيٍّ سُنَّةً، لكان الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو بذلك لأصحابِه؛ فدَعْوَتُه لهم أقربُ للإجابةِ. يُنظَرُ: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (17/171). ؛ نصَّ عليه الحَنفيَّة [8756] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/234). ويُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (2/237). ، والشَّافعيَّة [8757] ((المجموع)) للنووي (5/294)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/367). ، والحَنابِلَة [8758] ((الفروع)) لابن مفلح (3/382)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/248).
الأدلَّة:
أولًا: مِنَ الكتاب
قولُه تعالى في المنافقينَ: وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبرِهِ [التوبة: 84]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الدُّعاءَ والاستغفارَ كان عادَةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المسلمينَ بعد الفراغِ من الدَّفْنِ [8759] ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/135). ؛ فإنَّه لَمَّا نهى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عن الصَّلاةِ على المنافقينَ، وعن القيامِ على قبورِهم؛ كان دليلُ الخطابِ أنَّ المؤمِنَ يُصَلَّى عليه قبل الدَّفْنِ، ويُقامُ على قَبرِه بعد الدَّفْنِ [8760] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (24/330).
ثانيًا: من السُّنَّة
عن عثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، إذا فَرَغَ مِن دَفْنِ المَيِّت وَقَفَ عليه، فقال: استغْفِروا لأخيكم، وسَلُوا له بالتَّثبيتِ؛ فإنَّه الآن يُسْأَلُ )) [8761] أخرجه أبو داود (3221)، والبزار (445)، والحاكم (1372). حسَّن إسنادَه النوويُّ في ((الخلاصة)) (2/1028)، وقال ابن القيم في ((الروح)) (1/194): إسناده لا بأس به، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3221)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (933).
الفرع الثَّامِنُ: ما يَنتفِعُ به الميِّتُ، وحُكمُ إهداءِ القُرباتِ له
المسألة الأولى: ما يَنتفِعُ به الميِّتُ
 يَنتفعُ الميِّتُ بصلاةِ الجِنازةِ عليه، وأداءِ الواجبِ الذي تَدخُلُه النِّيابةُ، والدُّعاءِ والاستغفارِ له، والعباداتِ الماليَّةِ؛ كالعِتقِ والصَّدقةِ عنه.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها: ((أنَّ رجُلًا قال للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّ أمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُها [8762] افتُلِتَت نفسُها: أي ماتت فجأةً، وأُخِذَتْ نفسُها فلتةً. يقال: افتَلَتَه إذا استَلَبَه. وافتُلِتَ فلانٌ بكذا: إذا فوجِئَ به قبل أن يستعِدَّ له. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/467). ، وأظنُّها لو تكلَّمَتْ تصَدَّقَتْ، فهل لها أجرٌ إنْ تَصَدَّقْتُ عنها؟ قال: نعم )) [8763] أخرجه البخاري (1388)، ومسلم (1004).
2- عن ابنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ الله عنهما، ((أنَّ رَجُلًا قال لرسولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّ أمَّه تُوُفِّيَتْ: أينفَعُها إن تَصَدَّقْتُ عنها؟ قال: نعم. قال: فإنَّ لي مِخرافًا [8764] المِخْرافُ: الحديقَةُ مِن النَّخْلِ أَو العنبِ أو غَيرِهما. ((نيل الأوطار)) للشوكاني (4/112). ، وأُشْهِدُكَ أنِّي قد تصدَّقْتُ عنها )) [8765] أخرجه البخاري (2770).
3- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: ((نعى لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم النجاشيَّ صاحِبَ الحبَشَةِ، في اليومِ الذي مات فيه، فقال: استَغْفِروا لأخيكم )) [8766] أخرجه البخاري (1327)، ومسلم (951).
4- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إذا ماتَ الإنسانُ انقطَعَ عنه عمَلُه إلَّا من ثلاثةٍ: إلَّا مِن صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له )) [8767] أخرجه مسلم (1631).
ثانيًا: من الإجماع
نَقَلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ قُدامةَ [8768] قال ابنُ قُدامَة: (وأيُّ قُربةٍ فعَلَها، وجعَل ثوابَها للميِّت المُسلِم، نفعَه ذلك إنْ شاء اللهُ؛ أمَّا الدُّعاء، والاستغفار، والصَّدقة، وأداءُ الواجباتِ، فلا أعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجباتُ ممَّا تدخُله النِّيابةُ). ((المغني)) (2/423). ، والنوويُّ [8769] قال النوويُّ: (أجمَعَ المُسلمونَ على أنَّ الصَّدقَةَ عن الميِّت تنفعُه وتَصِلُه). ((المجموع)) (5/323). وقال: (فإنَّ الصَّدقةَ تصلُ إلى الميِّت، ويَنتفِعُ بها، بلا خلافٍ بين المسلمين، وهذا هو الصَّواب). ((شرح النووي على مسلم)) (1/89). وقال أيضًا: (وفيه: أنَّ الدُّعاءَ يصلُ ثوابُه إلى الميِّت، وكذلك الصَّدقةُ، وهما مُجمَعٌ عليهما). ((شرح النووي على مسلم)) (11/85) ، وابنُ تيميَّةَ [8770] قال ابنُ تيميَّة: (لا نِزاعَ بين عُلَماء السُّنة والجماعةِ في وصولِ ثوابِ العباداتِ الماليَّةِ؛ كالصَّدقة والعِتق، كما يصل إليه أيضًا الدعاءُ والاستغفارُ، والصَّلاةُ عليه صلاةَ الجِنازَة، والدُّعاءُ عند قبره). ((مجموع الفتاوى)) (24/366). وقال: (واتَّفقَتِ الأمَّة على أنَّ الصَّدَقَةَ تنفَع الميتَ). ((جامع المسائل)) لابن تيمية (4/248- 249). وقال أيضًا: (أمَّا الصَّدقةُ عن الميِّت، فإنَّه يَنتفِعُ بها باتِّفاقِ المسلمين... وكذلك ينفعُه الحجُّ عنه، والأُضْحِيَّةُ عنه، والعتقُ عنه، والدُّعاءُ والاستغفارُ له، بلا نِزاعٍ بين الأئمَّة). ((الفتاوى الكبرى)) (3/32- 33) ، وابنُ القَيِّم [8771] قال ابنُ القيِّم: (هل تنتفعُ أرواحُ الموتى بِشَيءٍ مِن سعْيِ الأحياءِ أم لا؟... فالجواب: أنَّها تنتفِعُ مِن سعْيِ الأحياءِ بأمرينِ مُجمَعٍ عليهما بين أهلِ السُّنة من الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ والتفسيرِ؛ أحدهما: ما تَسبَّب إليه الميِّتُ في حياتِه. والثاني: دُعاءُ المسلمين له، واستغفارهم له، والصَّدقَة). ((الروح)) لابن القيم (ص: 117). ، وابنُ مُفْلح [8772] قال ابنُ مُفلِح: (كلُّ قُرْبة فعَلَها المسلمُ وجعَل ثوابَها للمُسلم، نفَعَه ذلك، وحصَل له الثوابُ، كالدُّعاءِ [إجماعًا]، والاستغفارِ [إجماعًا]، وواجبٍ تَدْخُلُه النِّيابةُ [إجماعًا]، وصدقةِ التطوُّعِ [إجماعًا]، وكذا العِتقُ، ذكره القاضي وأصحابُه أصلًا، وذكره أبو المعالي وشيخُنا [إجماعًا]، وصاحب المحرَّر). ((الفروع)) (3/423). ، والمرداوي [8773] قال المَرداويُّ: (الدُّعاءُ والاستغفار، والواجبُ الذي تدخُله النيابةُ، وصدَقةُ التطوُّع، والعِتقُ، وحَجُّ التطوُّع، فإذا فعَلَها المسلمُ وجعَل ثوابها للميِّت المُسْلِم، نفَعَه ذلك إجماعًا). ((الإنصاف)) (2/393). وقصَر الشوكانيُّ انتفاعَ الميِّت بالصَّدقة والعِتق عنه، على صدورها من الولدِ لأبيه، أو أمِّه، كما في ((نيل الأوطار)) (4/113)، وهذا خلافُ الإجماع.
 ثالثًا: أن دُعَاءَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للأمواتِ فِعلًا وتعليمًا، وَدُعاءَ الصَّحابةِ وَالتَّابِعينَ وَالمُسلِمينَ عصرًا بعد عصرٍ؛ أَكثرُ من أَن يُذْكَرَ، وَأشهَرُ من أَن يُنكَرَ [8774] ((الروح)) لابن القيم (ص: 119).
المسألة الثانية: حُكمُ إهداءِ ثوابِ القُرُباتِ للمَيِّت
اختلف أهلُ العِلْمِ في حكمِ إهداءِ ثوابِ القُرُباتِ للمَيِّت على قولينِ:
القول الأول: يجوزُ [8775] قال ابن عثيمين: (فعلُ العباداتِ وإهداؤُها [للميِّت] أقلُّ ما فيه أن يكونَ جائزًا فقط، وليس مِن الأمورِ المندوبةِ، ولهذا لم يندُبِ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه إليه، بل أرشدَهم إلى الدُّعاءِ للميِّت، فيكون الدعاءُ أفضلَ مِن الإهداءِ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (2/308). وينظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/371)، ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (3/400). إهداءُ ثوابِ القرباتِ إلى المَيِّت؛ كقراءةِ القُرآنِ، وهو مذهبُ الحَنفيَّة [8776] ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق)) للزيلعي (2/83)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 229). ، والحَنابِلَة [8777] ((الفروع)) لابن مفلح (3/423)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/147). ، وقولُ بعض الشَّافعيَّة [8778] ((شرح النووي على مسلم)) (1/90)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/70). ، واختاره ابنُ تيميَّة [8779] قال ابن تيمية: (وأما " القراءةُ والصَّدَقة " وغيرُهما من أعمال البِرِّ؛ فلا نزاع بين علماء السُّنَّة والجماعة في وصولِ ثوابِ العباداتِ الماليَّة، كالصَّدَقة والعِتقِ، كما يصل إليه أيضًا الدُّعاءُ والاستغفارُ، والصلاة عليه صلاةَ الجنازة، والدُّعاءُ عند قَبِره. وتنازعوا في وصولِ الأعمال البدنيَّة: كالصَّومِ والصَّلاة والقِراءة والصواب أنَّ الجميعَ يصِلُ إليه) ((مجموع الفتاوى)) (24/366). وقال: (ولم يكُن من عادةِ السَّلَف إذا صلَّوا تطوُّعًا أو صاموا تطوُّعًا أو حجُّوا تطوُّعًا أو قرؤوا القرآنَ، يُهدونَ ثوابَ ذلك إلى أمواتِ المُسلِمينَ، فلا ينبغي العدولُ عن طريق السَّلَفِ، فإنَّه أفضلُ وأكمَلُ.  ((الفتاوى الكبرى)) (5/363).   ، والصنعانيُّ [8780] ((سبل السلام)) للصنعاني (2/118). ، وابنُ عثيمينَ [8781] قال ابنُ عثيمينَ: (يجوز الاعتمارُ عن الميِّتِ، كما يجوز الحجُّ عنه، وكذلك الطَّوافُ عنه يجوز، وكذلك جميعُ الأعمال الصالحة تجوزُ عن الميِّت، قال الإمام أحمد- رحمه الله-: كلُّ قُربةٍ فعَلَها وجعَل ثوابَها لحيٍّ أو ميِّتٍ مُسلمٍ، نَفَعَه، ولكنَّ الدُّعاءَ للمَيِّت أفضَلُ مِن ثوابها لحيٍّ أو ميِّتٍ مُسلمٍ نفعه) ((فتاوى أركان الإسلام)) (ص: 506).  وقال: (فعلُ العباداتِ وإهداؤُها [للميِّت] أقلُّ ما فيه أن يكونَ جائزًا فقط، وليس مِن الأمورِ المندوبةِ، ولهذا لم يندُبِ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه إليه، بل أرشدَهم إلى الدُّعاءِ للميِّت، فيكون الدعاءُ أفضلَ مِن الإهداءِ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (2/308). وينظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/371)، ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (3/400).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
1- عن بُريدَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينا أنا جالِسٌ عند رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذْ أَتَتْه امرأةٌ، فقالت: إنِّي تصدَّقْتُ على أمِّي بجاريةٍ، وإنَّها ماتَتْ، قال: فقال: وَجَبَ أجْرُكِ، ورَدَّها عليكِ الميراثُ. قالت: يا رسولَ الله، إنَّه كان عليها صَوْمُ شَهْرٍ، أفأصومُ عنها؟ قال: صُومي عنها. قالت: إنَّها لم تَحُجَّ قطُّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: حُجِّي عنها )) [8782] أخرجه مسلم (1149).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نبَّهَ بوصولِ ثَوابِ الصَّوْم- الذي هو مُجَرَّد ترْكٍ وَنِيَّةٍ تقوم بِالقلبِ لا يَطَّلِع عليه إِلَّا اللهُ، وَلَيْسَ بِعَمَل الجوارِح- على وُصولِ ثَوابِ القراءَة الَّتِي هِيَ عَمَلٌ بِاللِّسَانِ بطرِيق الأَوْلى، وكذا وُصُول ثَوَابِ سَائِر العباداتِ البدنِيَّةِ [8783] ((الروح)) لابن القيم (ص 122).
2- عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، ((أنَّ العاص بنَ وائلٍ أوصى أن يُعتَقَ عنه مائةُ رقبةٍ، فأعتق ابنُه هشامٌ خمسينَ رقبةً، فأراد ابنُه عمرٌو أن يُعتِقَ عنه الخمسينَ الباقية، فقال: حتى أسألَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي أوصى بعِتْقِ مائةِ رَقَبةٍ، وإنَّ هشامًا أعتَقَ عنه خمسينَ وبَقِيَت عليه خمسون رقبةً، أفأُعتِقُ عنه؟ فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّه لو كان مُسلمًا فأعْتَقْتُم عنه أو تصدَّقْتم عنه أو حَجَجْتم عنه؛ بَلَغَه ذلك )) أخرجه أبو داود (2883)، والبيهقي (13013) حسنه الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/155)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2883).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نبهَّ بوصول ثَوابِ الصَّدَقَةِ على وُصُولِ ثَوَاب سَائِر العِباداتِ المالِيَّة، وَأخْبَرَ بوصولِ ثَوابِ الحجِّ المُرَكَّب من الْمَالِيَّةِ والبَدَنِيَّة [8785] ((الروح)) لابن القيم (ص 122).
ثانيًا: أنَّ الثَّوَابَ حقٌّ لِلعامِلِ؛ فإذا وَهَبَه لِأَخِيهِ المُسلِم لم يُمنَع من ذَلِك؛ كَمَا لم يُمْنَع مِن هِبَةِ مَاله فِي حَيَاته، وإبرائِه لَه مِن بعدِ مَوتِه [8786] ((الروح)) لابن القيم (ص 122).
القول الثاني: لا يُشْرَع إهداءُ ثوابِ القُرُباتِ إلى المَيِّتِ، وهو مذهَبُ المالكيَّة [8787] ((منح الجليل)) لعليش (2/201). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/289)، ((الفروق)) للقرافي (3/192). ، والمشهورُ من مَذهَب الشَّافعيَّة [8788] ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/69). ويُنظر: ((النجم الوهاج)) للدميري (6/313). ، وهو قولُ ابن باز [8789] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/321)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (14/197).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قال الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39]
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لا يتَمَنَّى أحدُكُم الموتَ، ولا يَدْعُ به مِن قَبلِ أن يأتِيَه؛ إنَّه إذا مات أحَدُكم انقَطَعَ عَمَلُه... )) [8790] أخرجه مسلم (2682).
2- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إذا مات الإنسانُ انقطَعَ عنه عمَلُه إلَّا من ثلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقَةٍ جاريةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَع به، أو وَلَدٍ صالِحٍ يدعو له )) [8791] أخرجه مسلم (1631).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أخبَر أنَّه إِنَّما يَنتَفِعُ بِما كانَ تسبَّبَ إِليه فِي الحياةِ، وما لم يكُنْ قد تسبَّبَ إِليه، فَهُوَ مُنقَطِعٌ عَنهُ [8792] ((الروح)) لابن القيم (ص: 122).
ثالثًا: أنَّ الإهداءَ حِوالَة، وَالحِوالَةُ إِنَّمَا تكون بِحَقٍّ لازمٍ، والأعمالُ لا توجِبُ الثَّوَاب، وإنَّما هو مُجرَّدُ تفضُّلِ اللهِ وإحسانِه [8793] ((الروح)) لابن القيم (ص: 123).
رابعًا: أنَّ الإيثارَ بِأَسبابِ الثَّوابِ مَكروهٌ، وهوَ الإيثارُ بِالقُرَبِ؛ فَكيف الإيثارُ بِنَفس الثَّوابِ؟ فهو أَوْلى بالكراهَةِ [8794] ((الروح)) لابن القيم (ص: 123).
خامسًا: أنَّه لو ساغَ الإهداءُ إلى المَيِّت، لساغَ نَقْلُ الثَّوَابِ، والإهداءُ إلى الحيِّ [8795] ((الروح)) لابن القيم (ص: 123).

انظر أيضا: