الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّل: حُكمُ غُسلِ الجُمُعةِ


يُسنُّ الغُسلُ يومَ الجُمُعةِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة : الحَنَفيَّة ، والمالِكيَّة ، والشافعيَّة ، والحَنابِلَة ، وبه قال جماهيرُ العلماء ، وحُكي الإجماعُ على ذلك
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجُمُعة: 9]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ سياقَ الآية يُشير إشارةً خفيَّة إلى عدمِ وجوبِ الغُسل; وذلك لأنَّه لم يَذكُر نوعُ طهارةٍ عندَ السَّعي بعدَ الأذان، ومعلومٌ أنَّه لا بدَّ من طُهرٍ لها، فيكون إحالةً على الآية الثانية العامَّة في كلِّ الصلواتِ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ... [المائدة: 6] الآية؛ فيُكتَفَى بالوضوءِ، وتَحصُل الفضيلةُ بالغُسلِ
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَوضَّأَ، فأَحْسَنَ الوضوءَ، ثم أتى الجُمُعةَ فاستمَعَ، وأَنْصَتَ غُفِرَ له ما بَينَه وبينَ الجُمُعةِ وزيادةَ ثلاثةِ أيَّامٍ، ومَن مسَّ الحَصَى فقدْ لغَا ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
فيه دليلٌ على أنَّ الوضوءَ كافٍ للجُمُعةِ، وأنَّ المقتصِرَ عليه غيرُ آثمٍ ولا عاصٍ؛ فدلَّ على أنَّ الأمْرَ بالغُسلِ محمولٌ على الاستحبابِ
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زوجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت: ((كان الناسُ يَنتابونَ يوم الجُمُعةِ من منازلِهم والعوالي، فيأتون في الغُبارِ، يُصيبُهم الغبارُ والعَرَقُ، فيخرج منهم العرقُ، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أنَّكم تَطهَّرتُم ليومِكم هذا ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
قوله: ((لو أنَّكم تَطهَّرتم ليومِكم هذا)) يدلُّ على أنَّ غُسلَ الجُمُعةِ ليس بواجبٍ، حتى ولا على مَن له رِيحٌ تَخرُج منه، وإنَّما يُؤمَرُ به ندبًا واستحبابًا
3- عن أبي سَعيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أَشهدُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((الغُسلُ يومَ الجُمُعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ، وأنْ يَستنَّ، وأن يمسَّ طِيبًا إنْ وَجَد ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ غُسلِ الجُمُعة ذُكِر في سِياق السِّواكِ، ومسِّ الطِّيب، وهما لا يَجبانِ
وقوله: واجبٌ، يعني مُتأكِّد
ثالثًا: من الآثار
1- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عُمرَ بن الخطَّابِ بينما هو قائمٌ في الخُطبة يومَ الجُمُعة إذ دخَلَ رجلٌ من المهاجرين الأوَّلين مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فناداه عمرُ: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟ قال: إنِّي شُغِلتُ فلم أنقلبْ إلى أهلي حتى سمعتُ التأذينَ، فلم أزِدْ أن توضَّأتُ. فقال: والوضوءُ أيضًا، وقد علمتَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يأمُرُ بالغُسل؟! ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه لم يأمُرْ هذا الصحابيَّ- وهو عثمانُ بن عفَّانَ على ما جاءَ في الرِّوايات الأُخرى- بالانصرافِ للغُسل، ولا انصرَفَ عثمانُ حين ذَكَّره عمرُ بذلك، ولو كان الغسلُ واجبًا فرضًا للجمعة ما أَجزأتِ الجُمُعةُ إلَّا به، كما لا تُجزئ الصلاةُ إلَّا بوضوءٍ للمُحدِث، أو بالغُسلِ للجُنُبِ، ولو كان كذلك ما جَهِلَه عمرُ ولا عثمانُ، وقد حضَر ذلك الجمُّ الغفيرُ من الصَّحابة
2- عن ابنِ عبَّاسٍ قال: ((غُسل الجُمُعة ليسَ بواجبٍ، ولكنَّه أطهرُ وخيرٌ لِمَن اغتَسَل، وسأُخبِرُكم كيف كان بَدءُ الغُسلِ... ))
رابعًا: أنَّه غُسل يُقصَدُ به النظافةُ؛ لأجلِ اجتماعِ الناس في الصَّلاةِ المشروعِ لها الاجتماعُ العامُّ في مجامِعِ المناسِك، وهذا شأنُ الأغْسالِ المُستحَبَّة

انظر أيضا:

  1. (1) قال ابنُ هُبَيرة: (اتَّفقوا على أنَّ غُسل الجمعة مسنونٌ) ((اختلاف الأئمة العلماء)) (1/159).
  2. (2) ((الهداية)) للمرغيناني (1/17)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال بن الهمام (1/65).
  3. (3) ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/ 543)، ويُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/78، 79)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/90).
  4. (4) ((المجموع)) للنووي (4/535)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/328).
  5. (5) ((الفروع)) لابن مفلح (1/263)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/181).
  6. (6) قال ابنُ قُدامَة: ("يستحبُّ لِمَن أتى الجمعة أن يَغتسل، ويَلبَس ثوبين نظيفين، ويتطيَّب" لا خلافَ في استحباب ذلك، وفيه آثارٌ كثيرة صحيحة،...وليس ذلك بواجب في قول أكثرِ أهل العلم. قال الترمذيُّ: العملُ على هذا عند أهل العِلم من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن بعدهم. وهو قولُ الأوزاعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، وقيل: إنَّ هذا إجماع. قال ابنُ عبد البَرِّ: أجمَع علماءُ المسلمين قديمًا وحديثًا على أنَّ غُسل الجمعة ليس بفَرْض واجب) ((المغني)) (2/256). وقال النوويُّ: (مذاهب العلماء في غسل الجمعة: مذهبنا: أنَّه سُنَّة ليس بواجب يَعصي بتركه، بل له حُكمُ سائر المندوبات، وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وجماهيرُ العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم) ((المجموع)) (4/535).
  7. (7) قال ابنُ عبد البر: (قد أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على أنَّ غُسل الجمعة ليس بفرضٍ واجب، وفي ذلك ما يَكفي ويُغني عن الإكثار... إلَّا أنَّ العلماء مع إجماعهم على أنَّ غُسل الجمعة ليس بفرض واجب، اختلفوا فيه؛ هل هو سُنَّة مسنونة للأمَّة؟ أم هو استحبابٌ وفضل؟ أو كان لعلَّة فارتفعتْ؟...) ((التمهيد)) (10/79). وقال ابنُ رشد: ( ذهب الجمهورُ إلى أنه سُنَّة، وذهَب أهلُ الظاهر إلى أنَّه فرضٌ، ولا خلافَ- فيما أعلم- أنَّه ليس شرطًا في صحَّة الصلاة) ((بداية المجتهد)) (1/164). وقال ابنُ قُدامَة: ("يُستحبُّ لِمَن أتى الجمعة أن يَغتسل، ويَلبَس ثوبين نظيفين، ويتطيَّب" لا خلافَ في استحباب ذلك، وفيه آثارٌ كثيرة صحيحة) ((المغني)) (2/256). وقال أيضًا: (فإنَّه إجماعٌ، حيث قال عمر لعثمان: أيَّة ساعة هذه؟ فقال: إني شُغلتُ اليوم فلم أنقلبْ إلى أهلي حتى سمعتُ النداء، فلم أزدْ على الوضوء، فقال له عمر: والوضوء أيضًا وقد علمتَ أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يأمر بالغسل؟! ولو كان واجبًا لردَّه، ولم يَخْفَ على عثمان وعلى مَن حَضَر من الصحابة) ((المغني)) (2/256).
  8. (8) ((تتمَّة أضواء البيان للشنقيطي)) لعطية سالم (8/185).
  9. (9) رواه مسلم (857).
  10. (10) ((فتح الباري)) لابن رجب (5/342).
  11. (11) رواه البخاري (902)، ومسلم (847).
  12. (12) ((فتح الباري)) لابن رجب (5/409).
  13. (13) رواه البخاري (880)، ومسلم (846).
  14. (14) ((المغني)) لابن قدامة (2/257).
  15. (15) ((فتح الباري)) لابن رجب (5/373)، ((المغني)) لابن قدامة (2/257).
  16. (16) رواه البخاري (878)، ومسلم (845)، والرجل من المهاجرين هو عثمانُ بن عَفَّان رضي الله عنه.
  17. (17) ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/78)، ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (3/130).
  18. (18) رواه أبو داود (353) واللفظ له، وابن خزيمة (1755) بنحوه، والبيهقي (1/295) (1458) حسَّن إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (5/536)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (353)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (625).
  19. (19) ((شرح العمدة)) (1/361).