المطلب الأوَّلُ: ما يُشترَطُ للجَمعِ في وقتِ الأُولى
الفرع الأوَّلُ: البَداءَةُ بالأُولَىيُشترَطُ أنْ يبدَأَ بالأُولى من الصَّلاتينِ، أي: أن يَبدأَ بالظُّهرِ إذا جمَعَها مع العصرِ، وأنْ يَبدأَ بالمغربِ إذا جمَعَها مع العِشاءِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّة الأربعةِ: الحَنَفيَّة
، والمالِكيَّة
، والشافعيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّةعن مالكِ بنِ الحُويرثِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((صَلُّوا كما رَأيتُموني أُصلِّي ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَنا أنْ نُصلِّيَ كما كان يُصلِّي، وقد كان يَجمَعُ بين الصَّلاتينِ، فيَبدأ بالأُولى
ثانيًا: أنَّ الوقتَ للصَّلاة الأُولى والثانية تبعٌ لها، والتابِعُ لا يَتقدَّمُ على متبوعِه
ثالثًا: أنَّ الشَّرعَ جاءَ بترتيبِ الأوقاتِ في الصَّلواتِ؛ فوَجَب أن تكونَ كلُّ صلاةٍ في المحلِّ الذي رتَّبَها الشارعُ فيه
الفرع الثاني: نِيَّةُ الجَمْعِ النيَّةُ ليستْ شرطًا في جواز الجمْع، بل يُجزئ الجمعُ ولو لم يَنْوِه في الصَّلاةِ الأولى ما دام سببُه باقيًا، وهو مذهبُ الحَنَفيَّة
، وقولٌ للمالكيَّة
، وبه قال طائفةٌ من الشافعيَّة
، وقولٌ للحنابلة
، اختارَه
ابنُ تيميَّة
، وذهَب إليه
ابنُ حجرٍ
، و
ابنُ باز
، و
ابنُ عُثَيمين
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّةعن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((صَلَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إحْدى صلاتَي العَشيِّ- قال محمد: وأكثرُ ظنِّي العَصر- ركعتينِ، ثمَّ سَلَّم ثمَّ قام إلى خَشبةٍ في مُقدَّمِ المسجدِ فوضع يدَه عليها، وفيهم أبو بكر وعُمرُ رَضِيَ اللهُ عنهما، فهابَا أن يُكلِّماهُ وخرَج سَرَعانُ الناسِ، فقالوا: أَقصُرتِ الصَّلاةُ؟ ورجل يدعوه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (ذو اليدين) فقال: أَنسيتَ أم قَصُرتْ؟ فقال: لم أَنسَ ولم تَقْصُر! قال: بلى قد نَسيتَ، فصلَّى ركعتينِ، ثمَّ سلَّمَ، ثمَّ كبَّر فسجَد مثلَ سجودِه أو أطولَ، ثمَّ رفَعَ رأسَه فكَبَّر، ثمَّ وضَع رأسَه فَكبَّر فسجَد مِثل سجودِه أو أطولَ، ثمَّ رفَع رأسَه وكبَّر ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّه لو كان لا يجوزُ قَصْرُ الصَّلاةِ إلَّا بنيَّة القَصرِ، لَمَا أوردَ الصحابةُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كونَ الصَّلاةِ قَصُرتْ
ثانيًا: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا خرَج من المدينةِ صلَّى بهم بذِي الحُلَيفةِ العصرَ ركعتينِ
، ولم يأمرْهم بنيَّة قَصْرِ الصَّلاةِ
ثالثًا: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصلِّي بأصحابِه جمعًا وقصرًا، ولم يكُنْ يأمُرُ أحدًا منهم بنيَّةِ الجَمْعِ والقَصرِ
رابعًا: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى بهم الظهرَ بعَرفةَ ولم يُعلِمْهم أنَّه يُريدُ أنْ يُصلِّيَ العصرَ بعدَها، ثمَّ صلَّى بهم العصرَ ولم يكونوا نَوَوُا الجَمعَ
الفرع الثَّالِثُ: الموالاةُ بَينهُمايُشترَطُ الموالاةُ بين الصَّلاتينِ لجوازِ الجَمْعِ في وقتِ الصَّلاةِ الأُولى، فإنْ فُصِلَ بَينهما بفاصلٍ طويلٍ لم يُجمَع، وهذا مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة
، والشافعيَّة
، والحَنابِلَة
وذلك للآتي:أولًا: أنَّ المأثورَ في السُّننِ هو الموالاةُ بين الصَّلاتينِ المجموعتينِ؛ ولهذا تُرِكتِ الرواتبُ بينهما
ثانيًا: أنَّ معنى الجَمْعِ المتابعةُ والمقارنةُ، ولا يحصُلُ ذلك مع التفريقِ الطَّويلِ
ثالثًا: لأنَّ الجَمْعَ يَجعلهما كصلاةٍ واحدةٍ، فوجبتِ الموالاةُ كركَعاتِ الصَّلاةِ
الفرع الرَّابِعُ: وجودُ العُذرِ المبيحِ عندَ افتتاحِ الصَّلاةِاختَلفَ أهلُ العِلمِ في اشتراطِ وجودِ العُذرِ
في افتتاحِ الصَّلاةِ، وذلك على قولينِ:
القولُ الأوَّل: يُشترَطُ أنْ يكونَ العُذرُ المبيحُ للجَمْعِ موجودًا عندَ افتتاحِ الصَّلاةِ، وهو المشهورُ من مذهبِ المالِكيَّة
، والشافعيَّة
، والحَنابِلَة
؛ وذلِك ليكونَ العذرُ موجودًا وقتَ النيَّة، وهو عندَ الإحرامِ بالأُولى
القول الثاني: لا يُشترَطُ وجودُ العذرِ عندَ افتتاحِ الصَّلاةِ الأُولى، فإذا حصَل مطرٌ في أثناءِ الصَّلاةِ، فإنَّه يجوزُ الجمْعُ، ولو لم يكُنِ العذرُ موجودًا عند افتتاحِ الصَّلاةِ الأُولى، وهو قولُ بعضِ الشَّافعيَّة
، واختيارُ
ابنِ باز
و
ابنِ عُثَيمين
؛ وذلك لأنَّ سببَ الجمْعِ موجودٌ عند افتتاحِ الصَّلاةِ الثانيةِ، ولأنَّ نيَّةَ الجمْعِ لا تُشترَطُ عندَ افتتاحِ الصَّلاةِ الأُولى
الفرع الخامِسُ: أنْ لا تكونَ الصَّلاةُ الأُولى صَلاةَ جُمُعةٍلا يجوزُ الجمعُ بين صلاتَيِ الجُمُعةِ والعَصر؛ نصَّ على هذا فُقهاءُ الحَنابِلَة
، وهو وجه للشافعية
وهو اختيارُ
ابنِ باز
، و
ابن عُثَيمين
، وعليه فتوى اللَّجنةِ الدَّائمة
الأَدِلَّة:أولًا: من السُّنَّةعن
أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((أصابت النَّاسَ سَنَةٌ على عهد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبينا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطبُ على المنبرِ يومَ الجُمعة، قام أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ الله، هلك المالُ، وجاع العيالُ، فادعُ الله لنا أن يسقيَنا. قال: فرفَع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يديه، وما في السَّماء قَزَعة
، قال: فثار سحابٌ أمثالُ الجبالِ، ثم لم ينزلْ عن منبرِه حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيتِه. قال: فمُطرنا يومَنا ذلك، وفي الغدِ، ومِن بعد الغدِ، والذي يليه إلى الجمعةِ الأُخرى. فقام ذلك الأعرابيُّ، أو رجلٌ غيرُه، فقال: يا رسولَ الله، تهدَّم البناءُ، وغرقَ المالُ، فادعُ الله لنا. فرفَع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يديه وقال: اللهمَّ حوالينا ولا علينا. قال: فما جعل يشيرُ بيده إلى ناحيةٍ مِن السَّماء إلا تفرَّجت، حتى صارت المدينةُ في مثلِ الجوبة (2)، حتى سال الوادي، وادي قَناةَ، شهرًا. قال: فلم يجئْ أحدٌ مِن ناحيةٍ إلَّا حدَّث بالجود ))
وَجْهُ الدَّلالَةِ:أولًا: أنَّه قد وقَع المطرُ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يجمعْ فيه بينَ العصرِ والجمعةِ، فدلَّ على أنَّه غيرُ مشروعٍ.
ثانيًا: أنَّ الجُمُعةَ صلاةٌ منفردةٌ مُستقلَّةٌ في شُروطِها، وهيئتِها، وأركانِها، وثوابِها
ثالثًا: أنَّ السُّنَّة إنَّما وردتْ في الجمْعِ بيْنَ الظُّهرِ والعَصرِ، ولم يرِدْ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه جمَعَ العصرَ إلى الجُمُعةِ أبدًا
رابعًا: لا يصحُّ أن تُقاسَ الجُمعةُ على الظُّهرِ؛ لِمَا بين الصَّلاتينِ من المخالفةِ