الموسوعة الفقهية

المَطلَب الخامس: نيَّةُ الإمامةِ والائتمامِ


الفرعُ الأوَّل: حُكمُ نيَّةِ الإمامةِ والائتمامِ
المسألة الأولى: نيَّةُ الإمامةِ
نِيَّةُ الإمامةِ ليستْ شرطًا لصحَّةِ الجماعةِ، وهو مذهبُ الحَنَفيَّة وعندهم أنَّها ليستْ شرطًا في إمامته للرِّجال دون النساء. ((تبيين الحقائق للزيلعي، مع حاشية الشلبي)) (1/139)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/128)، (1/140)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (1/492). ، والمالِكيَّة [4634] إلا أنَّ المالكيَّة استَثْنَوا من ذلك أربعَ صلوات، اشترطوا فيها نيَّةَ الإمامة: الأولى: صلاة الجمعة، الثانية: صلاة الجَمْع بين المغرب والعشاء، الثالثة: صلاة الخوف، الرابعة: صلاة الاستخلاف. ((الشرح الكبير)) للدردير (1/338)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/38). ، والشافعيَّة [4635] ((المجموع)) للنووي (4/203)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/253). ، وروايةٌ عن أحمدَ [4636] قال المرداويُّ: (وعنه لا يُشترَط نيَّة الإمامة في الإمامِ في سوى الجُمُعة) ((الإنصاف)) (2/22). ، واختاره ابن عُثَيمين [4637] قال ابنُ عُثيمين: (القول الثاني في المسألة: أنه يصحُّ أن يأتمَّ الإنسان بشخصٍ لم ينوِ الإمامة.. وهذا قولُ الإمام مالك، وهو أصحُّ) ((الشرح الممتع)) (2/305). وقال أيضًا: (على كلِّ حال الاحتياطُ في هذه المسألة أن نقول: إنَّه إذا جاء رجلان إلى شخصٍ يُصلِّي فلينبِّهاه على أنه إمامٌ لهما، فإنْ سكت فقد أقرَّهما، وإن رفَض وأشار بيده أن لا تُصلِّيَا خلفي، فلا يُصلِّيَا خلفه، هذا هو الأحوطُ والأولى..) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/459).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى في المسجدِ ذاتَ ليلةٍ، فصلَّى بصلاتِه ناسٌ، ثمَّ صلَّى من القابلةِ، فكثُر الناسُ، ثم اجتمَعوا من اللَّيلةِ الثَّالثةِ، أو الرابعة، فلم يخرُجْ إليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا أصبحَ، قال: ((قد رأيتُ الذي صنعتُم، فلمْ يمنعْني من الخروجِ إليكم إلَّا أنِّي خشيتُ أنْ تُفرَضَ عليكم))، قال: وذلِك في رمضانَ رواه البخاري (1129)، ومسلم (761).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الصحابةَ صلَّوا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يكُن قد عَلِم بهم قبل أن يَشرَعَ في الصَّلاةِ، ولم ينوِ نيَّةَ الإمامةِ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (2/306).
ثانيًا: أنَّ المقصودَ هو المتابعةُ، وقد حصَلتْ [4640] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (2/306).
المَسألةُ الثَّانية: نِيَّةُ الائتمامِ
يُشترطُ نيَّةُ الائتمامِ في حقِّ المأمومِ، وهذا باتِّفاقَ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة [4641] ((حاشية ابن عابدين)) (1/424)، ((الهداية)) للمرغيناني (1/46). ، والمالِكيَّة [4642] ((منح الجليل)) لعليش (1/254)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/268). ، والشافعيَّة [4643] ((المجموع)) للنووي (4/200)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/252). ، والحَنابِلَة [4644] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/22)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/170).
وذلك للآتي:
أولًا: لأنَّ الجماعةَ تتعلَّقُ بها أحكامُ وجوبِ الاتِّباعِ، وسقوطِ السَّهوِ عن المأمومِ، وفسادِ صلاتِه بصلاةِ إمامِه، وإنَّما يتميَّزانِ بالنيَّة؛ فكانتْ شرطًا [4645] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/370).
ثانيًا: لأنَّه يلزم المأمومَ فسادُ الصَّلاةِ من جهةِ الإمامِ؛ فلا بدَّ من الْتزامِه [4646] ((الهداية)) للمرغيناني (1/46).
الفرع الثَّاني: قَلْبُ نيَّةِ الإمامةِ إلى الائتمامِ
إنْ أحرمَ إمامٌ لغيبةِ الإمامِ الراتبِ، ثم حضَرَ الإمامُ الراتبُ في أثناءِ الصَّلاة فأحرمَ بالمأمومينَ الذين أَحْرَموا وراءَ نائبِه صحَّ؛ نصَّ عليه الشافعيَّة [4647] ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (2/360)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/203). ، والحَنابِلَة [4648] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/29)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/324). ، واختاره ابنُ عُثَيمين قال ابنُ عُثيمين: (النوع الخامس: الانتقالُ من إمامة إلى ائتمام، وقد ذكَره في قوله: "وإنْ أحرم إمامُ الحيِّ بمَن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتمًّا صحَّ"، إمام الحي هو الإمام الراتب، وصورة ما ذَكَر المؤلِّف: أحرم شخصٌ بقوم نائبًا عن إمام الحي الذي تخلَّف، ثم حضر إمام الحي، فتقدَّم ليكملَ بالناس صلاةَ الجماعة، فنائبه يتأخَّر إنْ وجَد مكانًا في الصف، وإلا بقي عن يمين الإمام، فهنا ينتقل الإمام النائب من إمامة إلى ائتمام، وهذا جائزٌ. ودليله: ما وقَعَ لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين أمر أبا بكرٍ أن يُصلي بالناس...) ((الشرح الممتع)) (2/315).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((لَمَّا ثَقُلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ, فقال: مُروا أبا بكرٍ فلْيُصلِّ بالناسِ، قالت: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا بكرٍ رجلٌ أسيفٌ [4650] رجل أسيفٌ: أي: سريعُ الحزنِ والبُكاءِ، وقيل: هو الرَّقِيقُ. يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (1/398)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/48). , وإنَّه متَى يقُمْ مقامَك لا يُسمِعِ الناسَ؛ فلو أمرتَ عمرَ! فقال: مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناسِ, قالت: فقلتُ لحفصةَ: قولي له: إنَّ أبا بكرٍ رجلٌ أسيفٌ, وإنه متى يقمْ مقامَك لا يُسمِعِ الناسَ؛ فلو أمرتَ عمرَ! فقالت له: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّكنَّ لأنتُنَّ صواحبُ يوسفَ! مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناسِ، قالت: فأَمروا أبا بكرٍ يُصلِّي بالناسِ, قالت: فلمَّا دخل في الصَّلاة وجَدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من نفْسِه خِفَّةً فقام يُهادَى بين رجُلينِ ورِجلاه تخطَّانِ في الأرضِ, قالت: فلمَّا دخَل المسجدَ سَمِعَ أبو بكرٍ حِسَّه ذهَبَ يتأخَّرُ, فأومأ إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قمْ مكانَك، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى جلَس عن يَسارِ أبي بكرٍ, قالت: فكانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي بالناسِ جالسًا وأبو بكرٍ قائمًا؛ يَقتدي أبو بكرٍ بصَلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَقتدي الناسُ بصلاةِ أبي بكرٍ )) أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418).
الفرعُ الثَّالث: قلْبُ نيَّةِ الائتمامِ إلى الإمامةِ
سيأتي بيانُه في فرع حُكم الاستخلافِ.
الفَرع الرَّابع: قلْبُ نيَّة الإمامةِ، أو الائتمامِ إلى الانفرادِ
إذا نوى المأمومُ الانفرادَ ومفارقةَ الإمامِ لعُذرٍ جازَ، وهو مذهبُ الشافعيَّة [4652] ((المجموع)) للنووي (4/245)، وينظر: ((حلية العلماء)) للقفال الشاشي (2/167). ، والحَنابِلَة [4653] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/24)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/320). ، واختارَه ابنُ عُثَيمين [4654] سُئِل ابن عثيمين: (إذا حصَل للمأموم عُذرٌ قاهر؛ فهل يجوز له قطعُ الصلاة, أو ينفرد عن الإمام ويتمَّها خفيفة؟) فأجاب بقوله: (له الخيارُ بين الأمرين) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (15/219). ، وهو ما أفتت به اللَّجنةُ الدَّائمة [4655] قالت اللَّجنة الدائمة: (... يُحرِم المصلِّي مأمومًا مع إمامه، ثم ينوي مفارقة الإمام في أثناء الصلاة، ويتمها وحده منفردًا،.. هذا جائزٌ لعذر) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (6/312).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: صلَّى معاذٌ بقومِه فقرأ سورةَ البقرة، فتأخَّر رجلٌ فصلَّى وَحْدَه، فقيل له: نافقتَ! قال: ما نافقتُ، ولكن لَآتِينَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأُخبِره، فأتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَر له ذلك، فقال: ((أَفتَّانٌ أنتَ يا معاذ؟! مرَّتينِ )) رواه البخاري (6106)، ومسلم (465).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يأمرِ الرجلَ بالإعادةِ، ولا أَنكرَ عليه فِعلَه [4657] ((المغني)) لابن قدامة (2/171).

انظر أيضا: