الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: الهُدنةُ المُؤَقَّتةُ والمُطلَقةُ


اختَلَفَ العُلَماءُ في حُكمِ الهُدنةِ المُؤَقَّتةِ والمُطلَقةِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يَجوزُ عَقدُ الهُدنةِ مُؤَقَّتةً ومُطلَقةً، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [415] الحَنَفيَّةُ قَيَّدوه بما إذا كانَ فيه مَصلَحةٌ. ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/85)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/245). ، وبعضِ المالِكيَّةِ [416] ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/231). ، واختاره ابنُ تَيميَّةَ [417] قال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا قَولُه سُبحانَه: بَراءةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسولِه إِلَى الَّذِينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ فتلك عُهودٌ جائِزةٌ لا لازِمةٌ؛ فإنَّها كانَت مُطلَقةً، وكانَ مُخَيَّرًا بَينَ إمضائِها ونَقضِها، كالوَكالةِ ونَحوِها، ومَن قال مِنَ الفُقَهاءِ مِن أصحابِنا وغَيرِهم: إنَّ الهُدنةَ لا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتةً: فقَولُه -مَعَ أنَّهُ مُخالِفٌ لأُصولِ أحمَدَ- يَرُدُّهُ القُرآنُ، وتَرُدُّهُ سُنَّةُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أكثَرِ المُعاهَدينَ؛ فإنَّه لَم يوقِّتْ مَعَهم وقتًا). ((مجموع الفتاوى)) (29/140). ، وابنُ القَيِّمِ [418] قال ابنُ القَيِّمِ: (القَولُ الثَّاني -وهو الصَّوابُ- أنَّهُ يَجوزُ عَقدُها مُطلَقةً ومُؤَقَّتةً، فإذا كانَت مُؤَقَّتةً جازَ أن تُجعَلَ لازِمةً، ولَو جُعِلَت جائِزةً -بحَيثُ يَجوزُ لكُلٍّ مِنهُما فسخُها مَتى شاءَ، كالشَّرِكةِ، والوَكالةِ، والمُضارَبةِ ونَحوِها- جازَ ذلك، لَكِن بشَرطِ أن يُنبَذَ إلَيهم على سَواءٍ. ويَجوزُ عَقدُها مُطلَقةً، وإذا كانَت مُطلَقةً لَم يُمكِنْ أن تَكونَ لازِمةَ التَّأبيدِ، بَل مَتى شاءَ نَقَضَها؛ وذلك أنَّ الأصلَ في العُقودِ أن تُعقدَ على أيِّ صِفةٍ كانَت فيها المَصلَحةُ، والمَصلَحةُ قد تَكونُ في هذا وهذا). ((زاد المعاد)) (2/876). ، وابنُ بازٍ [419] قال ابنُ بازٍ: (تَجوزُ الهُدنةُ مَعَ الأعداءِ مُطلَقةً ومُؤَقَّتةً، إذا رَأى وليُّ الأمرِ المَصلَحةَ في ذلك). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (18/439). ، وابنُ عُثَيمين [420] قال ابنُ عُثَيمينَ: (بخِلافِ الهُدنةِ؛ فإنَّها تَكونُ مُؤَقَّتةً، وتَصِحُّ مُطلَقةً، ولا تَصِحُّ مُؤَبَّدةً). ((الشرح الممتع)) (8/59). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَلَهما جَميعًا، كَما صالَحَ أهلَ مَكَّةَ على تَركِ الحَربِ عَشرَ سِنينَ، يَأمَنُ فيها النَّاسُ، ويَكُفُّ بَعضُهم عَن بَعضٍ، وصالَحَ كَثيرًا مِن قَبائِلِ العَرَبِ صُلحًا مُطلَقًا [421] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (18/439). .
ثانيًا: لأنَّ الأصلَ في العُقودِ أن تُعقدَ على أيِّ صِفةٍ كانَت فيها المَصلَحةُ، والمَصلَحةُ قد تَكونُ في المُؤَقَّتةِ، وقد تَكونُ في المُطلَقةِ [422] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/876). .
ثالثًا: لأنَّ مُدَّةَ الموادَعةِ تَدورُ مَعَ المَصلَحةِ، وهيَ قد تَزيدُ وتَنقُصُ [423] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/245)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/85). .
القَولُ الثَّاني: لا يَجوزُ عَقدُ هُدنةٍ مُطلَقةٍ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ [424] واختَلَفوا في تَحديدِها بالمُدَّةِ؛ فقال المالِكيَّةُ: لا حَدَّ لَها، بَل يُعَيِّنُها الإمامُ باجتِهادِه، ويُندَبُ أن لا تَزيدَ على أربَعةِ أشهُرٍ. وقال الشَّافِعيَّةُ: لا تَجوزُ أكثَرَ مِن أربَعةِ أشهُرٍ عِندَ قوَّةِ المُسلِمينَ، وأكثَرَ مِن عَشرِ سِنينَ عِندَ ضَعفِهم. وقال الحَنابِلةُ: يُشتَرَطُ أن تَكونَ المُدَّةُ مَعلومةً ولَو أكثَرَ مِن عَشرِ سِنينَ حَسَبَ المَصلَحةِ التي يَراها الإمامُ. يُنظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/206) ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/307)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/112). : المالِكيَّةِ [425] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/206). ، والشَّافِعيَّةِ [426] نَصَّ الشَّافِعيَّةُ على أنَّها لا تَصِحُّ مُطلَقةً، ويَجوزُ أن لا تُؤَقَّتَ، ويَشتَرِطُ الإمامُ نَقضَها وقتَما شاءَ. ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 315)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/307).   والحَنابِلةِ [427] ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/309)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/112). ، وذلك لأنَّ الإطلاقَ يَقتَضي التَّأبيدَ، وذلك يُفضي إلى تَركِ الجِهادِ بالكُلِّيَّةِ، وهو غَيرُ جائِزٍ [428] ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/112). .

انظر أيضا: