الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: أيُّهما يُقدَّمُ: الوصيَّةُ أمِ الدَّينُ؟


يُقدَّمُ قَضاءُ الدَّينِ على الوصيَّةِ [21] وإنَّما قُدِّمَت في الآيةِ زيادةً في الاهتِمامِ؛ لكَونِها مَظِنَّةَ التَّفريطِ، ولأنَّ الوصيَّةَ لَمَّا أشبَهَتِ الميراثَ في كَونِها بلا عِوضٍ كانَ في إخراجِها مَشَقَّةٌ على الوارِثِ؛ فقُدِّمَت حَثًّا على إخراجِها، ولأنَّ الوصيَّةَ غالِبًا تَكونُ لضِعافٍ، فقويَ جانِبُها بالتَّقديمِ في الذِّكرِ لئَلَّا يُطمَعَ فيها ويُتَساهَلَ، بخِلافِ الدَّينِ، فإنَّ فيه مِنَ القوَّةِ ما يُغنيه عَنِ التَّقويةِ بذلك. يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (5/249)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/ 3)، ((الدر المختار)) للحصكفي (6/ 760).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك: الشَّافِعيُّ [22] قال الشَّافِعيُّ: (ثُمَّ ما لَم أعلَمْ أهلَ العِلمِ اختَلَفوا فيه أنَّ الدَّينَ مُبدَأٌ على الوصايا والميراثِ، فكانَ حُكمُ الدَّينِ -كما وصَفتُ- مُنفَرِدًا مُقدَّمًا، وفي قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ "أو دَينٍ" ثُمَّ إجماعِ المُسلِمينَ أنْ لا وصيَّةَ ولا ميراثَ إلَّا بَعدَ الدَّينِ: دَليلٌ على أنَّ كُلَّ دَينٍ -في صِحَّةٍ كانَ أو في مَرَضٍ، بإقرارٍ أو بَيِّنةٍ، أو أيِّ وجهٍ ما كانَ- سَواءٌ؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَم يَخُصَّ دَينًا دونَ دَينٍ). ((الأم)) (4/ 106).      ، والتِّرمِذيُّ [23] قال التِّرمِذيُّ: (عَن عَليٍّ «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى بالدَّينِ قَبلَ الوصيَّةِ»، وأنتُم تَقرَؤونَ الوصيَّةَ قَبلَ الدَّينِ: والعَمَلُ على هذا عِندَ عامَّةِ أهلِ العِلمِ؛ أنَّه يُبدَأُ بالدَّينِ قَبلَ الوصيَّةِ). ((سنن الترمذي)) (4/435). ، والطَّبَريُّ [24] قال الطَّبَريُّ: (ولأبَويه مِن تَرِكَتِه مِن بَعدِ وفاتِه، إنَّما يَقسِمُه لهم على ما قَسَمَه لهم في هذه الآيةِ مِن بَعدِ قَضاءِ دَينِ المَيِّتِ الذي ماتَ وهو عليه مِن تَرِكَتِه، ومِن بَعدِ تَنفيذِ وصيَّتِه في بابِها بَعدَ قَضاءِ دَينِه كُلِّه...، وعَلى كُلِّ ما قُلنا مِن ذلك الأُمَّةُ مُجمِعةٌ). ((تفسير الطبري)) (7/ 46).          ، والجَصَّاصُ [25] قال أبو بَكرٍ الجَصَّاصُ: (رَوى الحارِثُ عَن عَليٍّ قال: تَقرَؤونَ الوصيَّةَ قَبلَ الدَّينِ، وإنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى بالدَّينِ قَبلَ الوصيَّةِ، قال أبو بَكرٍ: وهذا لا خِلافَ فيه بَينَ المُسلِمينَ). ((أحكام القرآن)) (3/ 28)           ، وابنُ حَزمٍ [26] قال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفَقوا أنَّ الوصيَّةَ لا تَجوزُ إلَّا بَعدَ أداءِ دُيونِ النَّاسِ، فإن فضَلَ شَيءٌ جازَتِ الوصيَّةُ، وإلَّا فلا). ((مراتب الإجماع)) (ص: 110).  ، وابنُ القَطَّانِ [27] قال ابنُ القَطَّانِ: (أجمَعَ المُسلِمونَ جَميعًا أنَّ الواجِبَ أن يُبدَأَ بالدَّينِ قَبلَ الوصيَّةِ). ((الإقناع في مسائل الإجماع)) (2/ 85). ، والقَرافيُّ [28] قال القَرافيُّ: (فالدَّينُ مِن رَأسِ المالِ...، وهو مُقدَّمٌ على الوصيَّةِ إجماعًا). ((الذخيرة)) (7/ 96، 97).               ، وابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيُّ [29] قال ابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيُّ: (لَم يَختَلِفِ العُلَماءُ في أنَّ الدَّينَ مُقدَّمٌ على الوصيَّةِ). ((فتح الباري)) (5/ 377، 378).  ، والصَّنعانيُّ [30] قال الصَّنعانيُّ: (اتَّفَقَ العُلَماءُ على أنَّه يُقدَّمُ إخراجُ الدَّينِ على الوصيَّةِ). ((سبل السلام)) (3/ 107).      .
ثانيًا: أنَّ الدَّينَ مُستَحَقٌّ عليه، والوصيَّةَ تُستَحَقُّ مِن جِهَتِه، والمُستَحَقُّ عليه أَولى لأنَّه مُطالَبٌ به؛ لأنَّ فراغَ ذِمَّتِه مِن أهَمِّ حَوائِجِه [31] يُنظر: ((الاختيار لتعليل المختار)) للموصلي (5/ 86).           .
ثالثًا: أنَّ الدَّينَ أهَمُّ مِنَ الوصيَّةِ؛ فإنَّ أداءَ الدَّينِ واجِبٌ، والوصيَّةَ تَبَرُّعٌ، والواجِبُ مُقدَّمٌ على التَّبَرُّعِ [32] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/ 487، 488).          .

انظر أيضا: