الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الحُكمُ بالقَرائِنِ في غَيرِ الحُدودِ


يَجوزُ للقاضي أن يَقضيَ بالقَرائِنِ في غَيرِ الحُدودِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [1939] ((كنز الدقائق)) للنسفي (ص: 504 - 506)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعلي (3/ 298). ، والمالِكيَّةِ [1940] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 172)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (4/ 416). ، والشَّافِعيَّةِ [1941] ((روضة الطالبين)) للنووي (4/ 366)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/ 78). ، والحنابِلةِ [1942] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (5/ 181)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (4/ 237). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
1- قال تعالى: إن كانَ قَميصُه قُدَّ مِن قُبُلٍ فصَدَقَت وهو مِنَ الكاذِبينَ [يوسف: 26] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الشَّاهِدَ في قِصَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ حَكَمَ بالقَرائِنِ الظَّاهِرةِ -وهيَ قَطعُ القَميصِ- على بَراءةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ، وكَذِبِ المَرأةِ [1943] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 66). .
2- قَولُه تَعالى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف: 18] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ يَعقوبَ عليه السَّلامُ استَدَلَّ على كَذِبِ إخوةِ يوسُفَ بسَلامةِ القَميصِ، وهيَ قَرينةٌ تَقومُ مَقامَ البَيِّنةِ [1944] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 66). .
3- قال تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة: 273] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
المُرادُ بالسِّيَما حالٌ تظهَرُ على الشَّخصِ، وقَرينةٌ تَقومُ مَقامَ البَيِّنةِ [1945] يُنظر: ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (1/ 240). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَينَما امرَأتانِ مَعَهما ابناهما، جاءَ الذِّئبُ فذَهَبَ بابنِ إحداهما، فقالت هذه لصاحِبَتِها: إنَّما ذَهَبَ بابنِكِ أنتِ، وقالتِ الأُخرى: إنَّما ذَهَبَ بابنِكِ، فتَحاكَمَتا إلى داوُدَ، فقَضى به للكُبرى، فخَرَجَتا على سُلَيمانَ بنِ داوُدَ عليهما السَّلامُ، فأخبَرَتاه، فقال: ائتوني بالسِّكِّينِ أشُقُّه بَينَكُما، فقالتِ الصُّغرى: لا، يَرحَمُكَ اللهُ، هو ابنُها؛ فقَضى به للصُّغرى)) [1946] أخرجه البخاري (3427)، ومسلم (1720) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ استَدَلَّ برِضا المَرأةِ الكُبرى على أن يَشُقَّه بَينَهما، وبأنَّها قَصَدَت مُساواةَ الصُّغرى في فقدِ ولَدِها، بأنَّها ليست أُمَّه، وبشَفَقةِ الصُّغرى عليه وامتِناعِها مِنَ الرِّضا بشَقِّه بالسِّكِّينِ بَينَهما قَضى به على أنَّها هيَ أُمُّه، والقَرينةُ الظَّاهِرةُ على الامتِناعِ هو ما قامَ بقَلبِها مِنَ الرَّحمةِ والشَّفَقةِ التي وضَعَها اللهُ تَعالى في قَلبِ الأُمِّ [1947] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 5)، ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن القيم (3/ 132). .
2- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهُما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاتَلَ أهلَ خَيبَرَ حَتَّى ألجَأهُم إلى قَصرِهم، فغَلَبَ على الأرضِ والزَّرعِ والنَّخلِ، فصالَحوه على أن يَجلوا مِنها ولَهم ما حَمَلَت رِكابُهم، ولرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّفراءُ والبَيضاءُ، ويَخرُجونَ مِنها، فاشتَرَطَ عليهم أن لا يَكتُموا، ولا يُغَيِّبوا شَيئًا، فإن فعَلوا فلا ذِمَّةَ لَهم ولا عِصمةَ، فغَيَّبوا مَسْكًا فيه مالٌ، وحُليٌّ لحُيَيِّ بنِ أخطَبَ كانَ احتَمَلَه مَعَه إلى خَيبَرَ حينَ أُجليَتِ النَّضيرُ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَمِّ حُيَيٍّ: ما فعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الذي جاءَ به مِنَ النَّضيرِ؟ فقال: أذهَبَته النَّفَقاتُ والحُروبُ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: العَهدُ قَريبٌ، والمالُ أكثَرُ مِن ذلك، فدَفَعَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ، فمَسَّه بعَذابٍ، وقد كانَ حُيَيٌّ قَبلَ ذلك قد دَخَلَ خَرِبةً، فقال: قد رَأيتُ حُيَيًّا يَطوفُ في خَرِبةٍ هاهنا، فذَهَبوا فطافوا، فوجَدوا المَسْكَ في خَرِبةٍ، فقَتَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابنَي أبي الحُقَيقِ -وأحَدُهما زَوجُ صَفيَّةَ بنتِ حُيَيِّ بنِ أخطَبَ- وسَبى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِساءَهم وذَراريَّهم، وقَسَّمَ أموالَهم؛ للنَّكثِ الذي نَكَثوهـ)) [1948] أخرجه أبو داود (3006) مختصرًا، وابن حبان (5199) واللفظ له، والبيهقي (18431). حسَّن إسنادَه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3006). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ حبان، وابن القيم في ((الطرق الحكمية)) (8)، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3006). .   
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يُصَدِّقْ عَمَّ حُيَيٍّ بادِّعاءِ نَفادِه بقَرينةِ كَذِبِه أنَّه أنفَقَه، فقال لَه: ((العَهدُ قَريبٌ، والمالُ أكثَرُ مِن ذلك)) وهما قَرينَتانِ في غايةِ القوَّةِ في كَذِبِه أنَّه أنفَقَه: كَثرةُ المالِ، وقِصَرُ المُدَّةِ التي يُنفَقُ كُلُّه فيها [1949] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 7، 8). .
ثالثًا: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَكَمَ بالقافةِ، وجَعَلَها دَليلًا مِن أدِلَّةِ ثُبوتِ النَّسَبِ، وكَذلك خُلَفاؤُه رَضيَ اللهُ عنهم [1950] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 10). .
رابعًا: لأنَّ الأخذَ بالقَرينةِ إن أهمَلَها الحاكِمُ أوِ الوالي أضاعَ حُقوقًا كَثيرةً، فهيَ مِن سُبُلِ إقامةِ الحَقِّ ودَفعِ الظُّلمِ [1951] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 3). .

انظر أيضا: