الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: الحُكمُ بالقَرائِنِ في الحُدودِ


اختَلَفَ الفُقَهاءُ في حُكمِ القَضاءِ بالقَرائِنِ في الحُدودِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَقضي القاضي بالقَرائِنِ في الحُدودِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [1952] ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/29،30). ويُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/ 64).  ، والشَّافِعيَّةِ [1953] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 296)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/16). ، والحنابِلةِ [1954] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 419 ،420)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/199،234). .
الأدِلَّةُ:
أولًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن عَبدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ رَضيَ اللهُ عنه، وذُكِرَ المُتَلاعِنانِ عِندَ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما، فقال ابنُ شَدَّادٍ: ((أهُما اللَّذانِ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَو كُنتُ راجِمًا أحَدًا بغَيرِ بَيِّنةٍ لَرَجَمتُها؟ فقال ابنُ عَبَّاسٍ: لا، تلك امرَأةٌ أعلَنَت)) [1955] أخرجه البخاري (6855)، ومسلم (1497) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما: ((لَو كُنتُ راجِمًا أحَدًا بغَيرِ بَيِّنةٍ لَرَجَمتُ فُلانةَ؛ فقد ظَهَرَ مِنها الرِّيبةُ في مَنطِقِها وهَيئَتِها ومَن يَدخُلُ عليها)) [1956] أخرجها ابنُ ماجه (2559) واللفظ له، والطبراني (11/206) (11507)، والديلمي في ((الفردوس)) (5037). صَحَّحها الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2559)، وصَحَّح إسنادَها ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (12/188)، والقسطلاني في ((إرشاد الساري)) (10/38). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يُقِمِ الحَدَّ على المَرأةِ على الرَّغمِ مِن ظُهورِ الرِّيبةِ عَنها؛ فدَلَّ على أنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ بالقَرائِنِ [1957] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 181). .
ثانيًا: أنَّه لَو وُجِدَ مِن شَخصٍ رائِحةُ الخَمرِ لا يُقامُ عليه الحَدُّ؛ لأنَّه يُحتَمَلُ أنَّه تَمَضمَضَ بها، أو ظَنَّها ماءً، أو أكَلَ نَبقًا بالِغًا، أو شَرِبَ شَرابَ تُفَّاحٍ، والحَدُّ يُدرَأُ بالشُّبهةِ [1958] يُنظر: ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 420). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ للقاضي أن يَقضيَ في الحُدودِ بالقَرائِنِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1959] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 394)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/354).                 ، وروايةٌ للحنابِلةِ [1960] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 234،199).           ، وهو قَولُ ابنِ تَيميَّةَ [1961] قال ابنُ تَيميَّةَ: (الحَدُّ واجِبٌ إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أوِ اعتَرَف الشَّارِبُ، فإن وُجِدَت مِنه رائِحةُ الخَمرِ، أو رُئيَ وهو يتقايؤها ونَحو ذلك، فقد قيلَ: لا يُقامُ عليه الحَدُّ؛ لاحتِمالِ أنَّه شَرِب ما ليس بخَمرٍ، أو شَرِبها جاهلًا بها، أو مَكروهًا ونَحوَ ذلك، وقيلَ: يُجلَدُ إذا عرف أنَّ ذلك مُسكِرٌ. وهذا هو المَأثورُ عنِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وغَيرِهم مِنَ الصَّحابةِ، كَعُثمانَ، وعَليٍّ، وابنِ مَسعودٍ، وعليه تَدُلُّ سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الذي اصطَلَحَ عليه النَّاسُ، وهو مَذهَبُ مالِكٍ، وأحمدَ في غالِبِ نُصوصِه، وغَيرِهما). ((السياسة الشرعية)) (1/146). ، وابنِ القَيِّمِ [1962]  قال ابنُ القَيِّمِ: (قَولُه: "إلَّا بالبَيِّناتِ والأيمانِ" يُريدُ بالبَيِّناتِ الأدِلَّةَ والشَّواهِدَ؛ فإنَّه قد صَحَّ عنه الحَدُّ في الزِّنا بالحَبَلِ، فهو بَيِّنةٌ صادِقةٌ، بَل هو أصدَقُ مِنَ الشُّهودِ، وكذلك رائِحةُ الخَمرِ بَيِّنةٌ على شُربِها عِندَ الصَّحابةِ وفُقَهاءِ أهلِ المَدينةِ، وأكثَرِ فُقَهاءِ الحَديثِ). ((إعلام الموقعين)) (1/100).  وقال في مَعرِضِ رَدِّه على أصحابِ الحِيَلِ: (وقُلتُم... لَو حَبِلَتِ امرَأةٌ لا زَوجَ لَها ولا سَيِّدَ ووَلَدَت مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، لم تُحَدَّ. ولَو تقايأ الخَمرَ كُلَّ يَومٍ لم يُحَدَّ، فتَرَكتُم مَحضَ القياسِ والثَّابِتَ عنِ الصَّحابةِ ثُبوتًا لا شَكَّ فيه مِنَ الحَدِّ بالحَبَلِ ورائِحةِ الخَمرِ). ((إعلام الموقعين)) (1/ 214). ، والشَّوكانيِّ [1963] قال الشَّوكانيُّ: (قَولُه: "وتَكفي شَهادةٌ على الشَّمِّ والقَيءِ ولَو كُلُّ فردٍ على فردٍ". أقولُ: وجهُ هذا أنَّه لا تَفوحُ رائِحةُ الخَمرِ مِن جَوفِ رَجُلٍ إلَّا وقد شَرِبَ الخَمرَ، ولا يَتَقَيَّأُ الخَمرَ رَجُلٌ إلَّا وقد شَرِبَها، هذا مَعلومٌ عَقلًا، وكانتِ الشَّهادةُ على هذينِ الأمرَينِ كالشَّهادةِ على الشُّربِ، ولَكِن لا بُدَّ أن يَكونَ مِن يَشهَدُ على الشَّمِّ والقَيءِ مِمَّن له خِبرةٌ مُتقَنةٌ برائِحةِ الخَمرِ ولَونِها، مَعَ انتِفاءِ أن يوجَدَ شَيءٌ مِنَ المَأكولاتِ أوِ المَشروباتِ الحَلالِ مُشابهةً للخَمرِ لَونًا أو عَرفًا، فإن وُجِدَ وادَّعاه الشَّارِبُ كان ذلك شُبهةً يُدرَأُ بها عنه الحَدُّ). ((السيل الجرار)) (ص: 857-858). ، وابنِ عُثَيمين [1964]  قال ابنُ عُثَيمين: (والصَّوابُ: أنَّه يُقامُ عليه الحَدُّ برائِحَتِها وبِتَقَيُّئِها إلَّا إذا ادَّعى شُبهةً، بأن قال: إنَّه شَرِبَها مُخطِئًا، أو كان يَظُنُّها شَرابًا مُباحًا، أو قال: إنَّه أُجبِرَ على ذلك، فهنا يُرفَعُ عنهـ). ((شرح صحيح مسلم)) (3/184). ، وحُكِيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك [1965] قال ابنُ قُدامةَ بَعدَ ذِكرِه لأثَرِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه في جَلدِ شارِبِ الخَمرِ بموجِبِ القَيءِ: (هذا بمَحضَرٍ مِن عُلَماءِ الصَّحابةِ -رَضِيَ اللهُ عنهم- وسادَتِهم، ولم يُنكَرْ؛ فكان إجماعًا). ((المغني)) (9/ 138). وقال ابنُ القَيِّمِ: (إقامةُ الحُدودِ بالرَّائِحةِ والقَيءِ كَما اتَّفقَ عليه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((إعلام الموقعين)) (3/ 16). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الآثارِ
1- عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما، قال: قال عُمَرُ: لَقد خَشيتُ أن يَطولَ بالنَّاسِ زَمانٌ حَتَّى يَقولَ قائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ، فيَضِلُّوا بتَركِ فريضةٍ أنزَلَها اللهُ، ألا وإنَّ الرَّجمَ حَقٌّ على مَن زَنى وقد أحصَنَ إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أو كانَ الحَملُ أوِ الاعتِرافُ [1966] أخرجه البخاري (6829) واللفظ له، ومسلم (1691). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه (أو كانَ الحَملُ)؛ فإنَّ الحَملَ قَرينةٌ على الزِّنا إذا لَم يَكُن لَها زَوجٌ أو سَيِّدٌ، ويَثبُتُ بذلك الحَدُّ [1967] يُنظر: ((حاشية السندي على سنن ابن ماجهـ)) (2/ 115).                  .
2- عَن بَعجةَ بنِ عَبدِ اللهِ الجُهَنيِّ، قال: (تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امرَأةً مِن جُهَينةَ، فولَدَت له لتَمامِ سِتَّةِ أشهُرٍ، فانطَلَقَ زَوجُها إلى عُثمانَ، فذَكَرَ ذلك لَه، فبَعَثَ إلَيها، فلَمَّا قامَت لتَلبَسَ ثيابَها بَكَت أُختُها، فقالت: ما يُبكيكِ؟ فواللهِ ما التَبَسَ بي أحَدٌ مِن خَلقِ اللهِ غَيرُه قَطُّ، فيَقضيَ اللهُ فيَّ ما يَشاءُ، فلَمَّا أُتيَ بها عُثمانُ أمَرَ برَجمِها، فبَلَغَ ذلك عَليًّا فأتاه، فقال لَه: ما تَصنَعُ؟ قال: ولَدَت تَمامًا لسِتَّةِ أشهُرٍ، وهَل يَكونُ ذلك؟! فقال له: أما تَقرَأُ القُرآنَ؟ قال: بَلى، قال: أما سَمِعتَ اللهَ يَقولُ: وحَملُه وفِصالُه ثَلاثونَ شَهرًا، وقال: حَولَينِ كامِلَينِ، فلَم تَجِده بَقيَ إلَّا سِتَّةُ أشهُرٍ، قال: فقال عُثمانُ: واللهِ ما فطَنتُ لهذا، عَلَيَّ بالمَرأةِ...) [1968] أخرجه ابنُ شبة في ((تاريخ المدينة)) (3/979)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (19064) واللفظ له. صَحَّحه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/214). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُثمانَ جَعَلَ الحَبَلَ دَليلًا على ثُبوتِ الزِّنا كالشُّهودِ [1969] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/ 94).                         .
3- عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزيدَ، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ خَرَجَ عليهم فقال: (إنِّي وجَدتُ مِن فُلانٍ ريحَ شَرابٍ، فزَعَمَ أنَّه شَرابُ الطِّلاءِ، وأنا سائِلٌ عَمَّا شَرِبَ، فإن كانَ يُسكِرُ جَلَدتُه، فجَلَدَه عُمَرُ الحَدَّ تامًّا) [1970] أخرجه البخاريُّ معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (5598) مختصرًا، وأخرجه موصولًا النسائي (5708) واللفظ له صَحَّح إسنادَه ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (2/513)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (10/66)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/77)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5708). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الأثَرُ دَليلٌ على القَضاءِ بالحَدِّ على مَن وُجِدَ به ريحُ الخَمرِ؛ لأنَّ الرَّائِحةَ قَرينةٌ على شُربِها [1971] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (24/257).                  .
4- عن حُضَينِ بنِ المُنذِرِ، أبي ساسانَ، قال: (شَهِدتُ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ وأُتِيَ بالوليدِ قد صلَّى الصُّبحَ ركعتينِ، ثُمَّ قال: أزيدُكم؟! فشَهِد عليه رجُلانِ -أحَدُهما حُمرانُ- أنَّه شَرِب الخَمرَ، وشَهِدَ آخرُ أنَّه رآه يتقيَّأُ، فقال عُثمانُ: إنَّه لم يتقيَّأْ حتَّى شَرِبَها، فقال: يا عَلِيُّ، قُمْ فاجْلِدْه، فقال عليٌّ: قُمْ يا حَسَنُ فاجلِدْه، فقال الحَسَنُ: وَلِّ حارَّها مَن توَلَّى قارَّها! فكأنَّه وَجَد عليه! فقال: يا عبدَ اللَّهِ بنَ جَعفَرٍ، قُمْ فاجلِدْه، فجَلَده وعليٌّ يَعُدُّ حتَّى بَلَغ أربعينَ، فقال: أمسِكْ. ثُمَّ قال: جَلَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربَعينَ، وجَلَدَ أبو بَكرٍ أربَعينَ، وعُمَرُ ثَمانينَ، وكُلٌّ سُنَّةٌ. وهذا أحَبُّ إلَيَّ) [1972] أخرجه مسلم (1707).           .
5- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كُنتُ بحِمصَ فقال لي بَعضُ القَومِ: اقرَأْ علينا. فقَرَأتُ عليهم سورةَ يوسُفَ. قال: فقال رَجُلٌ مِنَ القَومِ: واللهِ ما هَكَذا أُنزِلَت! قال: قُلتُ: ويحَكَ! واللهِ لَقد قَرَأتُها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال لي: "أحسَنتَ". فبَينَما أنا أُكَلِّمُه إذ وجَدتُ مِنه ريحَ الخَمرِ. قال: فقُلتُ: أتَشرَبُ الخَمرَ وتُكَذِّبُ بالكِتابِ؟! لا تَبرَحُ حتَّى أجلِدَك. قال: فجَلَدتُه الحَدَّ) [1973] أخرجه البخاري (5001)، ومسلم (801) واللفظ له. .
ثانيًا: لأنَّ وُجودَ الحَملِ أمارةٌ ظاهِرةٌ على الزِّنا أظهَرُ مِن دَلالةِ البَيِّنةِ، وما يَتَطَرَّقُ إلى دَلالةِ الحَملِ يَتَطَرَّقُ مِثلُه إلى دَلالةِ البَيِّنةِ وأكثَرُ [1974] يُنظر: ((عون المعبود وحاشية ابن القيم)) (6/ 120).                       .
ثالثًا: لأنَّ الحَدَّ بالقَرائِنِ هو المَأثورُ عَنِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وغَيرِهم مِنَ الصَّحابةِ، كَعُثمانَ، وعَليٍّ، وابنِ مَسعودٍ [1975] يُنظر: ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (1/146).               .

انظر أيضا: