الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: تَغليظُ اليَمينِ القَضائيَّةِ بالزَّمانِ والمَكانِ


يَجوزُ تَغليظُ اليَمينِ بالزَّمانِ والمَكانِ [1521] مِن أمثِلةِ التَّغليظِ بالزَّمانِ: بَعدَ العَصرِ؛ لقَولِه تَعالى: تَحبِسونَهما مِن بَعدِ الصَّلاةِ [المائدة: 106] ، أي: بَعدَ صَلاةِ العَصرِ. والتَّغليظُ بالمَكانِ: في المَسجِدِ الحَرامِ بَينَ الرُّكنِ والمَقامِ، وفي بَيتِ المَقدِسِ عِندَ الصَّخرةِ، وفي بَقيَّةِ المَساجِدِ عِندَ المِنبَرِ. يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (15/481،482). ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ [1522] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 228، 229)، ((منح الجليل)) لعليش (8/ 561). ، والشَّافِعيَّةِ [1523]  ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (13/ 190)، ((روضة الطالبين)) للنووي (12/ 32). ويُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (5/ 68). ، والحنابِلةِ [1524] عِندَ الحَنابِلةِ يَجوزُ التَّغليظُ إن رَأى الحاكِمُ في ذلك مَصلَحةً. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (10/ 219)، ((الإنصاف)) للمرداوي (12/ 120)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (15/ 357). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة: 106] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أشارَت هذه الآيةُ إلى تَعظيمِ الوقتِ الذي بَعدَ صَلاةِ العَصرِ؛ حَيثُ جاءَ الأمرُ أن يَكونَ الحَلِفُ فيه، فصارَت هذه الآيةُ أصلًا في التَّغليظِ في الأيمانِ [1525] ((النكت والعيون)) للماوردي (2/ 76)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (6/ 353)، ((التوضيح)) لابن الملقن (15/ 336)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (15/ 358). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثَلاثةٌ لا يَنظُرُ اللهُ إلَيهم يَومَ القيامةِ، ولا يُزَكِّيهم، ولَهم عَذابٌ أليمٌ... ورَجُلٌ أقامَ سِلعَتَه بَعدَ العَصرِ، فقال: واللهِ الذي لا إلَهَ غَيرُه لَقد أُعطيتُ بها كَذا وكَذا، فصَدَّقَه رَجُلٌ...)) [1526] أخرجه البخاري (2358). ، وفي لَفظٍ: ((... فحَلَفَ له باللهِ لَأخَذَها بكَذا وكَذا، فصَدَّقَه وهو على غَيرِ ذلك...)) [1527] أخرجه مسلم (108). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على أنَّ مَن حَلَفَ بَعدَ العَصرِ كاذِبًا عَرَّضَ نَفسَه للوعيدِ الشَّديدِ؛ مِمَّا يُفيدُ أنَّ اختيارَ وقتٍ مُعَظَّمٍ لليَمينِ مُناسِبٌ للتَّغليظِ [1528] ((الأوسط)) لابن المنذر (10/ 240)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 500)، ((المسالك)) لابن العربي (5/ 599)، ((التوضيح)) لابن الملقن (15/ 336). .
2- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنهُما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَحلِفُ عِندَ هذا المِنبَرِ عَبدٌ ولا أَمَةٌ على يَمينٍ آثِمةٍ، ولَو على سِواكٍ رَطبٍ، إلَّا وجَبَت له النَّارُ)) [1529] أخرجه ابنُ ماجه (2326)، وأحمد (10711). صَحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (8022) وقال: على شرط الشَّيخين، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2326)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1314)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/64)، وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (16/155)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (10711). .
3- عَن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهُما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَحلِفُ أحَدٌ عِندَ مِنبَري هذا على يَمينٍ آثِمةٍ، ولَو على سِواكٍ أخضَرَ، إلَّا تَبَوَّأ مَقعَدَه مِنَ النَّارِ، أو وجَبَت له النَّارُ)) [1530] أخرجه أبو داود (3246) واللفظ له، وابن ماجه (2325). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (4368)، وابن حزم في ((المحلى)) (8/37)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3246)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (206)، وصَحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (8020). وأخرجه أحمد (15024) بلفظ: عَن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: أيُّما امرِئٍ مِنَ النَّاسِ حَلَفَ عِندَ مِنبَري هذا على يَمينٍ كاذِبةٍ يَستَحِقُّ بها حَقَّ مُسلِمٍ، أدخَلَه اللهُ النَّارَ، وإن على سِواكٍ أخضَرَ)) قَوَّاه شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15024). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
ذِكرُ المِنبَرِ في هذا السِّياقِ يَدُلُّ على أنَّ للمَكانِ دَخلًا في تَغليظِ اليَمينِ، وذلك باختيارِ مَكانٍ مُعَظَّمٍ، كمِنبَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1531] يُنظر: ((الشافي)) لابن الأثير (5/ 453)، ((شرح مسند الشافعي)) للرافعي (2/ 482)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (8/ 2618)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/ 206). .
ثالثًا: من الآثارِ
عَنِ ابنِ أبي مُلَيكةَ، قال: (كَتَبتُ إلى ابنِ عَبَّاسٍ مِنَ الطَّائِفِ في جارَتَينِ ضَرَبَت إحداهما الأُخرى ولا شاهِدَ عليها، وكَتَبَ إلَيَّ: احبِسْهُما بَعدَ العَصرِ ثُمَّ اقرَأْ عليهما: إنَّ الَّذِينَ يَشتَرونَ بعَهدِ اللهِ وأيمانِهم ثَمَنًا قَليلًا، ففَعَلتُ، فاعتَرَفَت) [1532] أخرجه الشافعي في ((الأم)) (8/84)، والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (14/302). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الأثَرُ على أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَأى تَغليظَ اليَمينِ بالزَّمانِ، فاختارَ وقتَ الحَلِفِ بَعدَ العَصرِ مَعَ تِلاوةِ الآيةِ التي فيها الوعيدُ على اليَمينِ التي يُضَيَّعُ بها حَقُّ المَعصومِ [1533] يُنظر ((الشافي)) لابن الأثير (5/ 451). .
رابعًا: أنَّ التَّغليظَ مِن بابِ استِظهارِ الحَقِّ، وهو أمرٌ مَطلوبٌ شَرعًا [1534] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/ 205). .

انظر أيضا: