الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الأولى: القَضاءُ حالَ الغَضَبِ


يَحرُمُ القَضاءُ حالَ الغَضَبِ [679] تَحريرُ مَحَلِّ النِّزاعِ في المَسألةِ: أوَّلًا: انعَقدَ الإجماعُ على أنَّه لا يَنبَغي للقاضي أن يَحكُمَ حالَ غَضَبِه، قال ابنُ العَرَبيِّ: (اتَّفَقَ العُلَماءُ أنَّ القاضيَ لا يَقضي إذا نالَه غَضَبٌ أو ضَجَرٌ أو جوعٌ أو جَزَعٌ، ويَجمَعُ ذلك ما يَشغَلُ خاطِرَه، ويُفسِدُ -بقَطعِ النَّظَرِ- عِلمَه ورَأيَهـ). ((عارضة الأحوذي)) (1/188).  وقال ابنُ قُدامةَ: (لا خِلافَ بَينَ أهلِ العِلمِ -فيما عَلِمناه- في أنَّ القاضيَ لا يَنبَغي له أن يَقضيَ وهو غَضبانُ). ((المغني)) (10/44).  وقال الزَّركَشيُّ: (قال رَحِمَه اللهُ: ولا يَحكُمُ الحاكِمُ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ. ش: هذا -واللهُ أعلَمُ- اتِّفاقٌ). ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/248). ثانيًا: قال ابنُ عُثَيمينَ: (والغَضَبُ ثَلاثةُ أقسامٍ: غايةٌ، وابتِداءٌ، ووسَطٌ؛ فالابتِداءُ لا يَضُرُّ؛ لأنَّه ما مِن إنسانٍ يَخلو مِنهُ إلَّا نادِرًا، والغايةُ لا حُكمَ لمَنِ اتَّصَفَ به في أيِّ قَولٍ يَقولُه، والوسَطُ مَحَلُّ خِلافٍ بَينَ العُلَماءِ). ((الشرح الممتع)) (15/299). ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ -في المُعتَمَدِ- [680] ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/122)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (7/244). ، والحَنابِلةِ [681] ((الإقناع)) للحجاوي (4/380)، ((منتهى الإرادات)) لابن النجار (5/272). ، وهو اختيارُ الصَّنعانيِّ [682] قال الصَّنعانيُّ: (عَن أبي بَكرةَ رَضيَ اللهُ عنهُ قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: لا يَحكُمُ أحَدٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ. مُتَّفَقٌ عليهـ). النَّهيُ ظاهِرٌ في التَّحريمِ، وحَمَلَه الجُمهورُ على الكَراهةِ). ((سبل السلام)) (8/55). ، والشَّوكانيِّ [683] قال الشَّوكانيُّ: (ظاهِرُ النَّهيِ التَّحريمُ، ولا موجِبَ لصَرفِه عَن مَعناه الحَقيقيِّ إلى الكَراهةِ). ((نيل الأوطار)) (8/314). ، والشِّنقيطيِّ [684] قال الشِّنقيطيُّ: (ومِثالُه مِنَ السُّنَّةِ قَولُه صَلَّى اللهُ عليه وعَلى آلِه وسَلَّمَ: "لا يَقضي القاضي وهو غَضبانُ"؛ فإنَّ ذِكرَ الغَضَبِ مَقرونًا بالحُكمِ يَدُلُّ بظاهِرِه على التَّعليلِ بالغَضَبِ، لَكِن ثَبَتَ بالنَّظَرِ والاجتِهادِ أنَّه ليس عِلَّةً لذاتِه، بَل لما يُلازِمُه مِنَ التَّشويشِ المانِعِ مِنِ استيفاءِ الفِكرِ، فيُحذَفُ خُصوصُ الغَضَبِ، ويُناطُ النَّهيُ بالمَعنى الأعَمِّ الذي هو التَّشويشُ المُدهِشُ عَنِ الفِكرِ، فيَحرُمُ القَضاءُ مَعَ كُلِّ ما يُدهِشُ عَنِ الفِكرِ، كالعَطَشِ والجوعِ المُفرِطَينِ، وكالحَقنِ والحَقَبِ، أعني مُدافَعةَ البَولِ والغائِطِ، ونَحوِ ذلك مِن نُزولِ مُصيبةٍ أو فرَحٍ شَديدٍ، وغَيرِ ذلك). ((رحلة الحج)) (ص: 160). ، وابنِ بازٍ [685] قال ابنُ بازٍ: (يَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يَقضيَنَّ حَكَمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ»، وهذا يُفيدُ التَّحريمَ؛ لأنَّ الأصلَ في النَّهيِ هو التَّحريمُ، فلا يَجوزُ للقاضي في حالِ غَضَبِه أن يَقضيَ بَينَ الخُصومِ). ((الإفهام)) (ص: 743). ، والألبانيِّ [686] قال الألبانيُّ: (في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي بَكرةَ الثَّقَفيِّ رَضيَ اللهُ عنهُ، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يَقضي القاضي بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ» تَرى لَو قَضى بَينَ اثنَينِ في قَضيَّةٍ ما، أعطى لزَيدٍ ما لبَكرٍ، ولَو فِلسًا واحِدًا: هَل يَنفُذُ قَضاؤُه في حالةِ الغَضَبِ؟ الجَوابُ: لا؛ لأنَّ الرَّسولَ قال: «لا يَقضي» لا يَجوزُ أن يَقضيَ، فقَضى، فحُكمُ قَضائِه غَيرُ نافِذٍ). ((جامع تراث العلامة الألباني في الفقهـ)) (12/414). ، وابنِ عُثَيمين [687] قال ابنُ عُثَيمينَ: (الغَضَبُ ثَلاثةُ أقسامٍ: غايةٌ، وابتِداءٌ، ووسَطٌ؛ فالابتِداءُ لا يَضُرُّ؛ لأنَّه ما مِن إنسانٍ يَخلو مِنهُ إلَّا نادِرًا، والغايةُ لا حُكمَ لمَنِ اتَّصَفَ به في أيِّ قَولٍ يَقولُه، والوسَطُ مَحَلُّ خِلافٍ بَينَ العُلَماءِ...، فالغَضَبُ الذي يَحرُمُ على القاضي أن يَقضيَ فيه هو الغايةُ والوسَطُ). ((الشرح الممتع)) (15/299). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن أبي بَكرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا يَقضيَنَّ حَكَمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ)) [688] أخرجه البخاري (7158) واللفظ له، ومسلم (1717). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على النَّهيِ عَنِ القَضاءِ حالَ الغَضَبِ، والأصلُ في النَّهيِ التَّحريمُ [689] يُنظر: ((الإفهام)) لابن باز (ص: 743). .
2- عَن عَبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ مَعَ القاضي ما لم يَجُرْ، فإذا جارَ تَخَلَّى عنه ولَزِمَه الشَّيطانُ)) [690] أخرجه الترمذي (1330) واللفظ له، وابن ماجه (2312) بنحوه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5062)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1330)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على تَحريمِ القَضاءِ حالَ الغَضَبِ؛ لِما تُوُعِّدَ به القاضي الجائِرُ، فمَن حَكَمَ وهو غَضبانُ رُبَّما حَمَلَه الغَضَبُ على الجَورِ في الحُكمِ، فيَدخُلُ في هذا الوعيدِ [691] يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/168). .
ثانيًا: أنَّ الغَضَبَ أمرٌ مُشَوِّشٌ للفِكرِ لا يَتَمَكَّنُ مَعَه القاضي مِن استيفاءِ النَّظَرِ في الحُقوقِ، فلَو حَكَمَ في هذه الحالِ فهو مَظِنَّةٌ لضَياعِ حُقوقِ النَّاسِ، فيَحرُمُ عليه القَضاءُ حالَ الغَضَبِ [692] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/296). .
ثالثًا: أنَّه إذا كانَ أحَدُ الخَصمَينِ هو الذي أثارَ غَضَبَ القاضي، فقد يَحمِلُه غَضَبُه على هذا الخَصمِ أن يَحكُمَ عليه مَعَ أنَّ الحَقَّ لَه؛ فلذلك يَحرُمُ القَضاءُ حالَ الغَضَبِ [693] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (15/300). .

انظر أيضا: