الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: حُكمُ قَضاءِ القاضي بكِتابِ قاضٍ آخَرَ إليه


يُقبَلُ كِتابُ القاضي، ويَعمَلُ به القاضي المَكتوبُ إليه في الجُملةِ.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: إِنِّيٓ أُلۡقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٌ كَرِيمٌ إِنَّهُۥ مِن سُلَيۡمَٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَيَّ وَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ [النمل: 29-31] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّتِ الآيةُ على قَبولِ الكُتُبِ وأنَّها تَقومُ مَقامَ الكَلامِ؛ فإنَّ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ أنذَرَها بكِتابِه ودَعاها إلى دينِه وجَعَلَه بمَنزِلةِ كَلامِه [319] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/211). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه ((أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَتَبَ إلى كِسرى وإلى قَيصَرَ وإلى النَّجاشيِّ، وإلى كُلِّ جَبَّارٍ، يَدعوهم إلى اللهِ تَعالى)) [320] أخرجه مسلم (1774). .
2- عَنِ الضَّحَّاكِ بنِ سُفيانَ الكِلابيِّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَتَبَ إليه ((أنْ ورِّثِ امرَأةَ أشْيَمَ الضِّبابيِّ مِن ديةِ زَوجِها)) [321] أخرجه أبو داود (2927)، والترمذي (1415) واللفظ له، وابن ماجه (2642). صحَّحه الترمذي، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (12/117)، والنووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (1/250)، وابن حجر في ((موافقة الخُبر الخَبَر)) (1/455). .
وَجهُ الدَّلالةِ من الحَديثينِ:
دَلَّ الحَديثانِ على أنَّ الكِتابَ يَقومُ مَقامَ خِطابِ الكاتِبِ في الأداءِ عنه، وعَلى لُزومِ العَمَلِ بالكِتابِ المُرسَلِ مِنَ الحاكِمِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بَلَّغَ المُلوكَ رِسالَتَه بإرسالِ الكُتُبِ، وكانَ يَكتُبُ إلى عُمَّالِه وسُعاتِه للعَمَلِ بمُقتَضاها [322] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/42)، ((المغني)) لابن قدامة (10/80). .
ثالثًا: من الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك: الجَصَّاصُ [323] قال الجَصَّاصُ: (الأصلُ في جَوازِ قَبولِ كِتابِ القاضي إلى القاضي: اتِّفاقُ الفُقَهاءِ). ((شرح مختصر الطحاوي)) (8/42). ، والعِمرانيُّ [324] قال العِمرانيُّ: (وأجمَعَتِ الأُمَّةُ على جَوازِ الكِتابِ والعَمَلِ بهِ؛ لأنَّ الحاجةَ داعيةٌ إلى ذلك). ((البيان)) (13/110). ، وابنُ رُشدٍ [325] قال ابنُ رُشدٍ: (ومِمَّا اتَّفَقوا عليه في هذا البابِ أنَّه يَقضي القاضي بوُصولِ كِتابِ قاضٍ آخَرَ إليهـ). ((بداية المجتهد)) (4/252). ، وابنُ قُدامةَ [326] قال ابنُ قُدامةَ: (وأجمَعَتِ الأُمَّةُ على كِتابِ القاضي إلى القاضي، ولأنَّ الحاجةَ إلى قَبولِه داعيةٌ، فإنَّ مَن له حَقٌّ في بَلَدٍ غَيرِ بَلَدِه، ولا يُمكِنُه إتيانُه والمُطالَبةُ به إلَّا بكِتابِ القاضي، فوجَبَ قَبولُهـ)، وقال: (ففي هذه الصُّورِ الثَّلاثِ، يَلزَمُ الحاكِمَ إجابَتُه إلى الكِتابةِ، ويَلزَمُ المَكتوبَ إليه قَبولُه، سَواءٌ كانَت بَينَهما مَسافةٌ بَعيدةٌ أو قَريبةٌ، حَتَّى لَو كانا في جانِبَي بَلَدٍ أو مَجلِسٍ، لَزِمَه قَبولُه وإمضاؤُه، سَواءٌ كانَ حُكمًا على حاضِرٍ أو غائِبٍ. لا نَعلَمُ في هذا خِلافًا؛ لأنَّ حُكمَ الحاكِمِ يَجِبُ إمضاؤُه على كُلِّ حاكِمٍ). ((المغني)) (10/80، 81). ، وابنُ المُنَجَّى [327] قال ابنُ المُنجَّى: (وأمَّا الإجماعُ فأجمَعَتِ الأُمَّةُ على قَبولِ كِتابِ القاضي والأميرِ إلى مِثلَيهما). ((الممتع في شرح المقنع)) (4/568). ، والزَّركَشيُّ [328] قال الزَّركَشيُّ: (كِتابُ القاضي إلى القاضي مَقبولٌ في الجُملةِ بالإجماعِ). ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/278). ، والعَينيُّ [329] قال العَينيُّ: (هذا بابٌ في بَيانِ حُكمِ كِتابِ القاضي إلى القاضي...، وعليه أجمَعَ الفُقَهاءُ). ((البناية)) (9/35). ، والكَمالُ ابنُ الهُمامِ [330] قال الكَمالُ ابنُ الهُمامِ: (والعَمَلُ بكِتابِ القاضي إلى القاضي على خِلافِ القياسِ...، لَكِنَّه جازَ بإجماعِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لحاجةِ النَّاسِ إلى ذلك). ((فتح القدير)) (7/285، 286). ، وبُرهانُ الدِّينِ ابنُ مُفلِحٍ [331] قال بُرهانُ الدِّينِ ابنُ مُفلِحٍ: (بابُ حُكمِ كِتابِ القاضي إلى القاضي، وهو ثابِتٌ بالإجماعِ). ((المبدع)) (8/215). ، وابنُ النَّجَّارِ [332] قال ابنُ النَّجَّارِ: (وأجمَعَتِ الأُمَّةُ على قَبولِ كِتابِ القاضي إلى القاضي). ((شرح المنتهى)) (11/317). ، والبُهوتيُّ [333] قال البُهوتيُّ: (أجمَعَتِ الأُمَّةُ على قَبولِه، أي: كِتابِ القاضي إلى القاضي). ((الروض المربِع)) (ص: 714). ، والرُّحَيبانيُّ [334] قال الرُّحَيبانيُّ: (بابُ حُكمِ كِتابِ القاضي إلى القاضي، وأجمَعوا على جَوازِ المُكاتَبةِ). ((مطالب أولي النهى)) (6/538). .
رابعًا: أنَّ الحاجةَ داعيةٌ إلى قَبولِ كِتابِ القاضي؛ فإنَّ مَن له حَقٌّ في بَلَدٍ غَيرِ بَلَدِه ولا يُمكِنُه إتيانُه والمُطالَبةُ به سيَضيعُ حَقُّه إلَّا بكِتابِ القاضي؛ فوجَبَ قَبولُه حِفظًا للحُقوقِ [335] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/80). .
خامِسًا: قياسُ كِتابِ القاضي إلى القاضي بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ؛ وذلك لأنَّ الشُّهودَ النَّاقِلينَ للشَّهادةِ يَنقُلونَ قَولَ شُهودِ الأصلِ، فكَذلك كِتابُ القاضي يَقومُ مَقامَه فيما أنبَأ عنه [336] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/42). .

انظر أيضا: