الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني: مِقدارُ التَّعزيرِ إذا كان بالضَّربِ


اختَلَف الفُقَهاءُ في مِقدارِ التَّعزيرِ إذا كان بالضَّربِ، على أقوالٍ أشهَرُها قَولانِ:
القَولُ الأوَّلُ: التَّعزيرُ إذا كان بالضَّربِ له حَدٌّ ومِقدارٌ، بحَيثُ لا يُبلَغُ بالتَّعزيرِ أدنى الحُدودِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ في الجُملةِ: الحَنَفيَّةِ [2284] واختَلَف فُقَهاءُ الحَنَفيَّةِ في بَيانِ أدنى الحُدودِ: هَل هيَ باعتِبارِ الأحرارِ أم العَبيدِ؟ فمَن جَعَلَ المُعتَدَّ به حَدَّ العَبيدِ -وهو قَولُ أبي حَنيفةَ ومُحَمَّدٍ- جَعَلَ أقصى التَّعزيرِ تِسعةً وثَلاثينَ سَوطًا، ومَن جَعَلَ المُعتَدَّ به حَدَّ الأحرارِ جَعَلَها خَمسةً وسَبعينَ سَوطًا -وهو قَولُ أبي يوسُفَ-، وفي رِوايةٍ: تِسعةٌ وسَبعونَ سَوطًا -وهو قَولُ زُفَرَ-، وذلك للحُرِّ، أمَّا العَبدُ فتِسعةٌ وثَلاثونَ عِندَ الجَميعِ. ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/50)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 60). ، والشَّافِعيَّةِ [2285] يَرى الشَّافِعيَّةُ -في الصَّحيحِ مِنَ المَذهَبِ- أنَّه يَجِبُ النَّقصُ عن أربَعينَ جَلدةً في الحُرِّ، وعِشرينَ في العَبدِ. ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 303- 304)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 22). ، والحَنابِلةِ [2286] المَذهَبُ عِندَ الحَنابِلةِ أنَّه لا يُزادُ على عَشَرةِ أسواطٍ في التَّعزيرِ إلَّا في صُوَرٍ مُستثناةٍ، كَأن يَطَأَ جاريةً مُشتَرَكةً فيُعَزَّرُ بمِائةٍ إلَّا سَوطًا. ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 426)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 247)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 123). ، ورِوايةٌ عِندَ المالِكيَّةِ [2287] ((تحبير المختصر)) لبهرام (5/ 403-404). .
القَولُ الثَّاني: التَّعزيرُ بالضَّربِ يَختَلِفُ مِقدارُه باختِلافِ أسبابِه؛ فقد يُزادُ على أدنى الحُدودِ، ولا يُبلَغُ به أعلاها إذا كان سَبَبُ التَّعزيرِ مِن جِنسِ أحَدِ الحُدودِ [2288] أي: لا تَبلُغُ جِنايةٌ حَدًّا مَشروعًا مِن جِنسِها. ويَجوزُ أن يَزيدَ على حَدٍّ مِن غَيرِ جِنسِها، فيَنقُصُ تَعزيرُ مُقَدِّماتِ الزِّنا عن حَدِّه، وإن زاد على حَدِّ القَذفِ، وتَعزيرُ السَّبِّ عن حَدِّ القَذفِ، وإن زاد على حَدِّ الشُّربِ. وعِندَ المالِكيَّةِ -في المَشهورِ- يَجوزُ أن يُزادَ التَّعزيرُ بالضَّربِ عنِ الحَدِّ. يُنظر: ((منح الجليل)) لعليش (9/357). ، وهو قَولٌ للشَّافِعيَّةِ [2289] ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 22)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 207). ، وأحَدُ احتِمالَينِ في رِوايةٍ عن أحمَدَ [2290] الرِّوايةُ التي اختَلَف الحَنابِلةُ في تَفسيرِها هيَ: أنَّه لا يُبلَغُ بالتَّعزيرِ الحَدُّ، فيُحتَمَلُ أن تُفسَّرَ بأدنى حَدٍّ مَشروعٍ، ويُحتَمَلُ أن تُفسَّرَ بألَّا يَبلُغُ حَدًّا مَشروعًا في جِنسِها، كَما نَصُّوا عليه. ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 247). ، وأحَدُ أقوالِ أبي يوسُفَ [2291] ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 60). ، ورَجَّحَه ابنُ تَيميَّةَ [2292] قال ابنُ تَيميَّةَ: (لَكِن إن كان التَّعزيرُ فيما فيه مُقدَّرٌ لم يبلغْ به ذلك المُقدَّر، مِثلُ التَّعزيرِ على سَرِقةٍ دونَ النِّصابِ، لا يبلُغُ به القَطعَ، والتَّعزيرِ على المَضمَضةِ بالخَمرِ لا يَبلُغُ به حَدَّ الشُّربِ، والتَّعزيرِ على القَذفِ بغَيرِ الزِّنا لا يَبلُغُ به الحَدَّ. وهذا القَولُ أعدَلُ الأقوالِ، عليه دَلَّت سُنَّةُ رَسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وسُنَّةُ خُلَفائِه الرَّاشِدينَ، فقد أمَر النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بضَربِ الذي أحَلَّت له امرَأتُه جاريَتَها مِائةً، ودَرَأ عنه الحَدَّ بالشُّبهةِ، وأمَرَ أبو بَكرٍ وعُمَرُ بضَربِ رَجُلٍ وامرَأةٍ وُجِدا في لحافٍ واحِدٍ مِائةً مِائةً، وأمَر بضَربِ الذي نَقَشَ على خاتَمِه وأخَذَ مِن بَيتِ المالِ مِائةً، ثُمَّ ضَرَبَه في اليَومِ الثَّاني مِائةً، ثُمَّ ضَرَبَه في اليَومِ الثَّالِثِ مِائةً، وضَرب صَبيغَ بنَ عَسلٍ -لما رَأى مِن بدعَتِه- ضَربًا كَثيرًا لم يَعُدَّهـ). ((الحسبة في الإسلام)) (ص: 46). ، وابنُ القَيِّمِ [2293] قال ابنُ القَيِّمِ: (الثَّاني، وهو أحسَنُها: أنَّه لا يَبلُغُ بالتَّعزيرِ في مَعصيةٍ قَدرَ الحَدِّ فيها، فلا يَبلُغُ بالتَّعزيرِ على النَّظَرِ والمُباشَرةِ حَدَّ الزِّنا، ولا على السَّرِقةِ مِن غَيرِ حِرزٍ حَدَّ القَطعِ، ولا على الشَّتمِ بدونِ القَذفِ حَدَّ القَذفِ. وهذا قَولُ طائِفةٍ مِن أصحابِ الشَّافِعيِّ وأحمدَ). ((الطرق الحكمية)) (ص: 94). ، وابنُ عُثَيمين [2294] قال ابنُ عُثَيمين: (والصَّحيحُ أنَّ التَّعزيرَ -كَما يَدُلُّ عليه اسمُه- ما يَحصُلُ به التَّأديبُ، سَواءٌ كان عَشرَ جَلَداتٍ أو خَمسَ عَشرةَ جَلدةً أو عِشرينَ جَلدةً أو أكثرَ، إلَّا أنَّ التَّعزيرَ إذا كان جِنسُه فيه حَدٌّ فإنَّه لا يَبلُغُ به الحَدَّ، فالتَّعزيرُ على قَذفِ الصَّغيرةِ والمَجنونةِ لا يُمكِنُ أن يَصِلَ إلى ثَمانينَ جَلدةً؛ لأنَّ حَدَّ القَذفِ في الكَبيرةِ العاقِلةِ المُحصَنةِ ثَمانونَ، فلا يُمكِنُ أن يَبلُغَ التَّعزيرُ إلى غايةِ الحَدِّ؛ لئَلَّا نُلحِقَ ما دونَ الذي يوجِبُ الحَدَّ بما يوجِبُ الحَدَّ). ((الشرح الممتع)) (13/297-298). ؛ وذلك حتَّى لا يَبلُغَ التَّعزيرُ إلى غايةِ الحَدِّ، فيُلحَقَ ما دونَ الذي يوجِبُ الحَدَّ بما يوجِبُ الحَدَّ [2295] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/298). .

انظر أيضا: