الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ التَّاسِعُ: مِن أحكامِ قِتالِ البُغاةِ


مِن أحكامِ قِتالِ البُغاةِ: الكَفُّ عن مُدبِرِهم، وأن لا يُجهَزَ على جَريحِهم، وأن لا تُغنَمَ أموالُهم، وأن لا تُسبى ذَراريُّهم، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [1830] اشتَرَطَ الحَنَفيَّةُ في مَسألةِ الإجهازِ على الجَريحِ واتِّباعِ المُدبِرِ: فيما إذا لم تَكُنْ لَهم فِئةٌ. ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق)) للزيلعي (3/ 295)، ((البحر الرائق)) لابنِ نَجيم (5/153). ، والمالِكيَّةِ [1831] اشتَرَطَ المالِكيَّةُ في مَسألةِ الإجهازِ على الجَريحِ واتِّباعِ المُدبِرِ: فيما إذا لم يُخَفْ مِنهم، وأُمِنَ بَغيُهم. ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (8/105،106)، (الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (4/299). ، والشَّافِعيَّةِ [1832] اشتَرَطَ الشَّافِعيَّةُ في مَسألةِ عَدَمِ اتِّباعِ المُدبِرِ: فيما إذا لم يَتَحَرَّفْ لقِتالٍ، أو إذا لم يَتَحَيَّزْ إلى فِئةٍ قَريبةٍ. ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 291)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/71،72). ويُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/ 115). ، والحَنابِلةِ [1833] ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (3/ 390)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 164). ، وحُكيَ فيه الإجماعُ [1834] قال الجَصَّاصُ: (ورَوى عَطاءُ بنُ السَّائِبِ عن أبي البختريِّ وعامِرٍ، قالا: لمَّا ظَهَرَ عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه على أهلِ الجَمَلِ قال: لا تَتَّبِعوا مُدبِرًا ولا تُذَفِّفوا على جَريحٍ. ورَوى شَريكٌ عنِ السُّدِّيِّ عن عَبدِ خَيرٍ قال: قال عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه يَومَ الجَمَلِ: لا تَقتُلوا أسيرًا، ولا تُجهِزوا على جَريحٍ، ومَن ألقى السِّلاحَ فهو آمِنٌ، قال أبو بَكرٍ: هذا حُكمُ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه في البُغاةِ، ولا نَعلَمُ له مُخالِفًا مِنَ السَّلَفِ). ((أحكام القرآن)) (5/ 283). وقال ابنُ بَطَّالٍ: (قال المُهلَّبُ وغَيرُه: أجمَعَ العُلَماءُ أنَّ الخَوارِجَ إذا خَرَجوا على الإمامِ العَدلِ، وشَقُّوا عَصا المُسلِمينَ ونَصَبوا رايةَ الخِلافِ؛ أنَّ قِتالَهم واجِبٌ، وأنَّ دِماءَهم هَدرٌ، وأنَّه لا يُتبعُ مُنهَزِمُهم، ولا يُجهَزُ على جَريحِهم). ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 584). وقال أيضًا: (... حَدَّثَنا نافِعٌ، عن ابنِ عُمَرَ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لابنِ مَسعودٍ: "أتدري كَيف حُكمُ اللهِ فيمَن بَغى مِن هذه الأُمَّةِ؟ قال: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: حُكمُ اللهِ فيها ألَّا يُقتَلَ أسيرُها، ولا يُقسَمَ فَيئُها، ولا يُجهَزَ على جَريحِها، ولا يُتَّبَعُ مُدبِرُها". وبِهذا عَمِلَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ، ورَضيَتِ الأُمَّةُ بفِعلِه هذا فيهم). ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 17). وقال ابنُ حَزمٍ: (واتَّفَقوا أنَّ مَن قاتَلَ الفِئةَ الباغيةَ مِمَّن له أن يُقاتِلَها، وهيَ خارِجةٌ ظُلمًا على إمامٍ عَدلٍ واجِبِ الطَّاعةِ صَحيحِ الإمامةِ، فلم يَتبعْ مُدبِرًا، ولا أجهَزَ على جَريحٍ، ولا أخذَ لَهم مالًا؛ أنَّه قد فعَلَ في القِتالِ ما وجَبَ عليهـ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 126، 127). وقال: (اتَّفقوا أنَّه لا يَحِلُّ تَمَلُّكُ شَيءٍ مِن أموالِهم ما داموا في الحَربِ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 127). وقال ابنُ قُدامةَ: (أمَّا غَنيمةُ أموالِهم -أي البُغاةِ- وسَبيُ ذُرِّيَّتِهم، فلا نَعلَمُ في تَحريمِه بَينَ أهلِ العِلمِ خِلافًا). ((المغني)) (8/ 534). وقال شَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (ولا يُغنَمُ لَهم مالٌ ولا يُسبى لَهم ذَرِّيَّة، ولا نَعلَمُ في تَحريمِه بَينَ أهلِ العِلمِ خِلافًا). ((الشرح الكبير)) (10/ 59). وحَصَلَ خِلافٌ في عَدَمِ الإجهازِ على الجَريحِ واتِّباعِ المُدبِرِ، قال ابنُ المُنذِرِ: (واختَلَفوا في قَتلِ المُدبِر مِنهم والأسيرِ أوِ الجَريحِ. فكان الشَّافِعيُّ يَقولُ: لا يُقتَلُ مِنهم مُدبِرٌ أبَدًا، ولا أسيرٌ ولا جَريحٌ بحالٍ. قال أبو بَكرٍ: ومِن حُجَّةِ مَن قال هذا القَولَ قَولُ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه يَومَ الجَمَلِ: لا يُذَفَّفُ على جَريحٍ، ولا يُهتَكُ سِترٌ، ولا يُفتَحُ بابٌ، ومَن أغلَقَ بابًا -أو بابَه- فهو آمِنٌ، ولا يُتبعُ مُدبِرٌ. ورويَ نَحوُ ذلك عن عَمَّارِ بنِ ياسِرٍ. وقال أصحابُ الرَّأيِ في الخَوارِجِ: إذا هُزِموا ولَهم فِئةٌ يلجَؤون إليها فيَنبَغي لأهلِ الجَماعةِ أن يَقتُلوا مُدبِرَهم، وأن يُجهِزوا على جَريحِهم، وأن يَقتُلوا مَن أُسِرَ مِنهم). ((الإشراف)) (8/221). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/ 283). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم في حُروبِهم مَعَ البُغاةِ لم يَتبَعوا مُدبِرًا، ولا ذَفَّفوا على جَريحٍ، ولا قَتَلوا أسيرًا، ولا ضَمنوا نَفسًا ولا مالًا، وهمُ القُدوةُ [1835] ((تفسير القرطبي)) (16/ 320). .
ثانيًا: لأنَّهم مُسلِمونَ، والإسلامُ يَعصِمُ النَّفسَ والمالَ [1836] ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (6/ 103، 104). .
ثالِثًا: لأنَّ المَقصودَ دَفعُهم وكَفُّهم، وقد حَصَلَ، فلَم يَجُزْ قَتلُهم، كالصَّائِلِ [1837] ((المغني)) لابن قدامة (8/ 533). .

انظر أيضا: