الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: ثُبوتُ حَدِّ الزِّنا بالإقرارِ


يَثبُتُ حَدُّ الزِّنا بالإقرارِ، إذا تَوفَّرَت فيه سائِرُ الشُّروطِ.
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا مِن أسلَمَ يُقالُ له ماعِزُ بنُ مالِكٍ، أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي أصَبتُ فاحِشةً، فأقِمْه عليَّ، فرَدَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِرارًا، قال: ثُمَّ سَألَ قَومَه، فقالوا: ما نَعلَمُ به بَأسًا، إلَّا أنَّه أصابَ شَيئًا يَرى أنَّه لا يُخرِجُه منه إلَّا أن يُقامَ فيه الحَدُّ، قال: فرَجَعَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَنا أن نَرجُمَه، قال: فانطَلَقنا به إلى بَقيعِ الغَرقَدِ، قال: فما أوثَقناه ولا حَفَرنا له، قال: فرَمَيناه بالعَظمِ والمَدَرِ والخَزَفِ، قال: فاشتَدَّ واشتَدَدنا خَلفَه حتَّى أتى عُرضَ الحَرَّةِ، فانتَصَبَ لنا فرَمَيناه بجَلاميدِ الحَرَّةِ -يَعني الحِجارةَ- حتَّى سَكَتَ...)) [496] أخرجه مسلم (1694). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقامَ على ماعِزٍ الحَدَّ بموجِبِ إقرارِه [497] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 166 - 167).  .
2- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: ((كان فيما أنزَلَ اللهُ آيةُ الرَّجمِ، فقَرَأناها وعَقَلناها ووعَيناها، ورَجم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَجَمنا بَعدَه، فأخشى إن طالَ بالنَّاسِ زَمانٌ أن يَقولَ قائِلٌ: واللهِ ما نَجِدُ آيةَ الرَّجمِ في كِتابِ اللهِ، فيَضِلُّوا بتَركِ فريضةٍ أنزَلَها اللهُ، والرَّجمُ في كِتابِ اللهِ حَقٌّ على مَن زَنى إذا أُحصِنَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أو كان الحَبَلُ أوِ الاعتِرافُ)) [498] أخرجه البخاري (6830) واللفظ له، ومسلم (1691). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فيه دَليلٌ على وُجوبِ الرَّجمِ على مَنِ اعتَرَف بالزِّنا وهو مُحصَنٌ [499] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 192).  .
3- عَن أبي هُرَيرةَ وزَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّهما قالا: ((إنَّ رَجُلًا مِنَ الأعرابِ أتى رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أنشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيتَ لي بكِتابِ اللهِ. فقال الخَصمُ الآخَرُ -وهو أفقَهُ مِنه-: نَعَم، فاقضِ بَينَنا بكِتابِ اللهِ، وأْذَنْ لي. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: قُلْ، قال: إنَّ ابني كان عَسيفًا على هذا، فزَنى بامرَأتِه، وإنِّي أُخبِرتُ أنَّ على ابني الرَّجمَ، فافتَدَيتُ مِنه بمِائةِ شاةٍ ووليدةٍ، فسَألتُ أهلَ العِلمِ فأخبَروني أنَّما على ابني جَلْدُ مِائةٍ، وتَغريبُ عامٍ، وأنَّ على امرَأةِ هذا الرَّجمَ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: والذي نَفسي بيَدِه لأقضيَنَّ بَينَكُما بكِتابِ اللهِ، الوليدةُ والغَنَمُ رَدٌّ، وعلى ابنِك جَلدُ مِائةٍ وتَغريبُ عامٍ، واغْدُ يا أُنَيسُ إلى امرَأةِ هذا، فإنِ اعتَرَفت فارجُمْها، قال: فغَدا عليها فاعتَرَفَت، فأمَر بها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فرُجِمَت)) [500] أخرجه البخاري (2724، 2725)، ومسلم (1697، 1698) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على اعتِبارِ الإقرارِ في ثُبوتِ الحَدِّ على الزَّاني؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَتَّبَ الرَّجمَ على الاعتِرافِ [501] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/ 451)، ((الممتع في شرح المقنع)) لابن المنجى (4/247). .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ حَزمٍ [502] قال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفقوا أنَّ مَن أقَرَّ بالزِّنا وهو حُرٌّ بالِغٌ غَيرُ سَكرانَ ولا مُكرَهٍ في أربَعةِ مَجالِسَ مُتَفرِّقةٍ، كَما ذَكَرنا في المَسألةِ التي قَبلَها، وثَبَتَ على إقرارِه حتَّى أُقيمَ عليه جَميعُ الحَدِّ؛ فإنَّه قد أُقيمَ عليه الحَدُّ الواجِبُ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 56). ، وابنُ عبدِ البَرِّ [503] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (أمَّا الاعتِرافُ فهو الإقرارُ مِنَ البالِغِ العاقِلِ بالزِّنا صُراحًا لا كِنايةً، فإذا ثَبَتَ على إقرارِه ولم يَنزِعْ عنه وكان مُحصَنًا، وجَبَ عليه الرَّجمُ، وإن كان بكرًا جُلِد مِائةً، وهذا كُلُّه لا خِلافَ فيه بَينَ العُلَماءِ). ((الاستذكار)) (7/485). ، وابنُ رُشدٍ [504] قال ابنُ رُشدٍ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ الزِّنا يَثبُتُ بالإقرارِ وبِالشَّهادةِ). ((بداية المجتهد)) (2/ 359). ، وابنُ القَطَّانِ [505] قال ابنُ القَطَّانِ: (أمَّا الاعتِرافُ بالزِّنا فهو الإقرارُ بصريحِه مِنَ البالِغِ العاقِلِ، فإذا ثَبَتَ على الإقرارِ به وكان مُحصَنًا، وجَبَ رَجمُه، وإن كان بكرًا فجَلدُه، ولا خِلافَ في هذا كُلِّه، وأمَّا ظُهورُ الحَملِ بامرَأةٍ لا زَوجَ لَها يُعلَمُ، ففيه تَنازُعٌ). ((الإقناع)) (2/256-257). ، والنَّوويُّ [506] قال النَّوويُّ: (أجمَعوا على وُجوبِ الرَّجمِ على مَنِ اعتَرَف بالزِّنا وهو مُحصَنٌ يَصِحُّ إقرارُه بالحَدِّ). ((شرح النووي على مسلم)) (11/192). ، والزَّيلَعيُّ [507] قال الزَّيلعيُّ: (أمَّا الإجماعُ فلِأنَّ الأُمَّةَ أجمَعَت على أنَّ الإقرارَ حُجَّةٌ في حَقِّ نَفسِه، حتَّى أوجَبوا عليه الحُدودَ والقِصاصَ بإقرارِهـ). ((تبيين الحقائق)) (5/ 3). ، والزَّركَشيُّ [508] قال الزَّركَشيُّ: (ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجَم ماعِزًا بإقرارِه، وقال: «واغْدُ يا أُنَيسُ إلى امرَأةِ هذا، فإنِ اعتَرَفت فارجُمها». وأجمَعَ المُسلِمونَ على صِحَّةِ الإقرارِ في الجُملةِ). ((شرح مختصر الخرقي)) (6/105). ، والشِّربينيُّ [509] قال الشِّربينيُّ: (الإقرارُ، وهو لُغةً: الإثباتُ... والأصلُ فيه قَبلَ الإجماعِ قَولُه تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي أي: عَهدي قَالُوا أَقْرَرْنَا، وخَبَرُ الصَّحيحَينِ: "اغدُ يا أُنَيسُ إلى امرَأةِ هذا، فإنِ اعتَرَفت فارجُمْها"، وأجمَعَتِ الأُمَّةُ على المُؤاخَذةِ بهـ). ((الإقناع)) (2/324). .
ثالِثًا: لأنَّ الإقرارَ إخبارٌ على وجهٍ تَنتَفي فيه التُّهمةُ والرِّيبةُ؛ ولِهذا كان آكَدَ مِنَ الشَّهادةِ [510] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/ 3)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 453).  .
رابِعًا: لأنَّ العاقِلَ لا يُقِرُّ على نَفسِه كاذِبًا بما فيه ضَرَرٌ على نَفسِه أو مالِه، فتَرَجَّحَت جِهةُ الصِّدقِ في حَقِّ نَفسِه؛ لعَدَمِ التُّهمةِ، وكَمالِ الوِلايةِ [511] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/ 3).  .

انظر أيضا: