موسوعة اللغة العربية

المطلَبُ الأوَّلُ: ابنُ فَضلِ اللهِ العُمَريُّ


هو الشَّيخُ شِهابُ الدِّينِ، أبو العبَّاسِ، أحمدُ بنُ يحيى بنِ فَضلِ اللهِ، العُمَريُّ، من ذُرِّيَّةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ t، وُلِد سنةَ 700ه، لأسرةٍ مُهتَمَّةٍ بالعِلمِ والأدَبِ، فأبوه القاضي محيي الدِّينِ أبو المعالي، كان كاتبَ السِّرِّ في دولةِ المماليكِ.
تلقَّى الشَّيخُ شِهابُ الدِّينِ العُلومَ على أبرَزِ مشايخِ عَصرِه؛ فأخذ العربيَّةَ عن كمالِ الدِّينِ ابنِ قاضي شُهبةَ، وأثيرِ الدِّينِ أبي حيَّانَ، ثمَّ تفَقَّه على بُرهانِ الدِّينِ بنِ الفِرْكاحِ، وشَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ، وأخَذ البلاغةَ عن الشَّيخِ شِهابِ الدِّينِ محمود، والأصولَ على شَمسِ الدِّينِ الأصفهانيِّ.
تولَّى ابنُ فَضلِ اللهِ كتابةَ السِّرِّ مِثلَ أبيه، وفاق شِعرُه ونَثْرُه، إلَّا أنَّ موهِبَتَه في الكتابةِ طَغَت على نَظْمِه. من تصانيِفه: (التَّعريف بالمُصطَلَحِ الشَّريف)، (فواصِلُ السَّمَر في فضائِلِ آلِ عُمَر)، (مسالِكُ الأبصار في ممالِكِ الأمصار). توفِّي سنةَ (749هـ) [125] يُنظَر: ((فوات الوفيات)) لابن شاكر (1/ 157)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (8/ 163). .
قال صلاحُ الدِّينِ الصَّفَديُّ في حقِّه: (الإمامُ الفاضِلُ البليغُ المفَوَّهُ الحافِظُ، حُجَّةُ الكُتَّابِ إمامُ أهلِ الآدابِ، أحَدُ رِجالاتِ الزَّمانِ كتابةً وترسُّلًا، وتوصُّلًا إلى غاياتِ المعالي وتوسُّلًا، وإقدامًا على الأُسودِ في غابِها، وإرغامًا لأعاديه بَمنعِ رغابِها، يتوقَّدُ ذَكاءً وفِطنةً، ويتلَهَّبُ ويَحدرُ سَيلُه ذاكِرةً وحِفظًا، ويتصَبَّبُ ويتدَفَّقُ بَحرُه بالجواهِرِ كلامًا، ويتألَّقُ إنشاؤه بالبوارِقِ المتسَرِّعةِ نِظامًا، ويقطُرُ كلامُه فصاحةً وبلاغةً، وتَنْدى عبارتُه انسجامًا وصياغةً، ... لا أرى أنَّ اسمَ الكاتِبِ يَصدُقُ على غيرِه، ولا يُطلَقُ على سِواه، ... ولا أعتَقِدُ أنَّ بينَه وبينَ القاضي الفاضِلِ مَن جاء مِثلَه، على أنَّه قد جاء مِثلَ تاجِ الدِّينِ بنِ الأثيرِ، ومحيي الدِّينِ بنِ عبدِ الظَّاهِرِ، وشِهابِ الدِّينِ محمود، وكمالِ الدِّينِ بنِ العَطَّارِ، وغيرِهم) [126] يُنظَر: ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (8/ 163). .
ومن دُرَرِ أدَبِه قولُه في وصيَّةِ الخليفةِ لوزيرٍ: (يوصي بتقوى اللهِ؛ فإنَّه عليه رقيب، وإليه أقرَبُ مِن كُلِّ قريب، فلْيجعَلْه أمامَه، ولْيَطلُبْ منه لكُلِّ ما شَرَع فيه تمامَه، ولْيُجِلْ رأيَه في كُلِّ ما تَشُدُّ به الدَّولةُ أَزْرَها، وتُسنِدُ إليه ظَهْرَها، وليَجعَلِ العَدلَ أصلًا يبني على أُسِّه، والعَمَلَ في أمورِه كُلِّها لسُلطانِه لا لنَفْسِه، ولْيَدَعْ منه الغَرَضَ جانبًا، وحَظَّ النَّفسِ الذي لا يبدو إلَّا من العَدُوِّ، وليَصدُقْ من دعاه صاحِبًا، ولْيُبصِرْ كيف يُثري الأموالَ من جِهاتِها، وكيف يُخَلِّصُ بُيوتَ الأموالِ -بالاقتصارِ على الدَّراهِمِ الحَلالِ- من شُبُهاتِها، وليُنَزِّهْ مطاعِمَ العساكِرِ المنصورةِ عن أكلِ الحرامِ؛ فإنَّه لا يُسمِنُ ولا يُغني من جوع، ولا يُرى به من العَينِ إلَّا ما يُحرِّمُ الهُجوع، ولْيَحذَرْ مِن هذا؛ فإنَّ المفاجِئَ به كالمخاتِلِ، وليتجَنَّبْ إطعامَ الجُندِ منه؛ فإنَّ آكِلَ الدِّرهَمِ الحرامِ ما يقاتِلُ، ولْيُحسِنْ كيفَ يُوَلِّي ويَعزِل، ويُسمِّنُ ويهْزِل، وعليه بالكُفاةِ الأُمَناء، وتجنُّبِ الخَوَنةِ وإن كانوا ذوي غَناء؛ وإيَّاه والعاجِزَ، ومَن لو رأى المصلحةَ بَيْنَ عينَيه رأى بينَه وبينَها ألفُ حاجِز، وليُطَهِّرْ بابَه ويُسَهِّلْ حِجابَه، ...كما أنَّنا نوصيه أنَّه لا يأخُذُ شيئًا إلَّا بحَقِّه، وليبقِ لأيامِنا الزَّاهِرةِ بتواقيعِه ذِكرًا لا يَفنى، وبرًّا لا يزالُ ثَمرُه الطَّيِّبُ من قَلَمِه يُجنى؛ ليكونَ من رياحِ دَولتِنا التي تغتَنِمُ ما يثيرُه من سحابِها المَطِير، وحَسَناتِ أيَّامِنا التي ما ذُكِرْنا وذُكِرَ معنا فيها إلَّا وقيل: نِعْمَ المَلِكُ ونِعْمَ الوَزير!) [127] يُنظَر: ((التعريف بالمصطلح الشريف)) لابن فضل الله العمري (ص: 131). .
وكتَبَ في نسخةِ نيابةِ قَلعةِ دِمَشقَ: (الحَمدُ للهِ مُشَرِّفِ القِلاع، ومُصرِّفِ رجالِها في الامتِناع، ومعرِّفِ مَن جادَلها أنَّ الشَّمسَ عاليةُ الارتِفاع. نحمَدُه حمدًا يُشَنِّف الأسماع، ويُشرِّف الإجماع، وتحلِّق في صُعودِه الملائكةُ أولي أجنِحةٍ مَثنى وثُلاثَ ورُباع، ونشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، شهادةً نرجو بها لِما بَقِي من قلاعِ الكُفرِ الاقتِلاع، واستعادةَ ما قرَّ معهم من قُرًى وضاعَ من ضِياع، ونشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه الذي حمى به دُرَّةَ الإسلامِ من الارتِضاع، وصان به حَوزةَ الحَقِّ أن تُضاع، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصَحْبِه صلاةً دائمةً ما أُسبل للَّيلِ ذيلٌ وامتدَّ للشَّمسِ شُعاع، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وبَعدُ؛ فإنَّ للحُصونِ حواضِرَ كما للبلاد، وحواضِنَ تَضُمُّ بقاياها ضمَّ الأمَّهاتِ للأولاد، ومعاقِلَ يُرجَعُ إليها إذا نابت النُّوَبُ الشِّداد، ومعاقِدَ يُعتَصَمُ مِن مَنعتِها بجبالٍ ويُتَمَسَّكُ بأطواد؛ وقلعةُ دِمَشقَ المحروسةُ هي التي تفتَخِرُ بقايا البِقاعِ بالاتِّصالِ بسَبَبِها، والتَّمسُّكِ في الشَّدائدِ بذَيلِ حَسَبِها، لا يُهتدى في السِّلْمِ والحَربِ إلَّا بمنارِها، ولا يُقتدى في التَّسليمِ والامتناعِ إلَّا بآثارِها، ولا يُستَقى إلَّا بما يَفيضُ على السُّحُبِ من فَيضِ أمطارِها، قد ترجَّلَت لتبارِز، وتقدَّمَت لتُناهِز، ودلَّت بقُواها فما احتجَبَت من سُجوفِ الجَبَلِ بحِجابٍ ولا احتَجَزت منِ الغَمامِ بحاجِز ...) [128] يُنظَر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) (12/ 24). .

انظر أيضا: