موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: النَّابِغةُ الذُّبْيانيُّ


يُطلَقُ لَقَبُ النَّابِغةِ على غيْرِ شاعِرٍ؛ مِنهم النَّابِغةُ الجَعْديُّ، والنَّابِغةُ الذُّبْيانيُّ، والنَّابِغةُ الشَّيْبانيُّ، والذُّبْيانيُّ أشْهَرُ الثَّلاثةِ وأشْعَرُهم، وهو زِيادُ بنُ مُعاويةَ بنِ ضبابٍ الذُّبْيانيُّ الغَطَفانيُّ المُضَريُّ، أبو أُمامةَ: شاعِرٌ جاهِليٌّ، مِن الطَّبَقةِ الأُولى، مِن أهْلِ الحِجازِ.
ساعَدَتْ مَكانةُ غَطَفانَ المُتوسِّطةُ بيْنَ الغَساسِنةِ في الشَّامِ والمَناذِرةِ في الحِيرةِ أن يَتَقرَّبَ النَّابِغةُ الذُّبْيانيُّ مِن كِلتا المَمْلَكَتَينِ، وبالفِعْلِ اسْتَطاعَ النَّابِغةُ أن يَنالَ الرِّضا مِنهما جَميعًا، فكانَ يَتمدَّحُ بالمَناذِرةِ والغَساسِنةِ، غيْرَ أنَّه كانَ أقْرَبَ صِلةً بمُلوكِ الحِيرةِ، فكانَ جَليسًا للمُنذِرِ بنِ ماءِ السَّماءِ مَلِكِ الحِيرةِ، ثُمَّ تَولَّى بعْدَ المُنذِرِ عَمْرُو بنُ هِنْدٍ، فوَقَعَتْ جَفْوةٌ بيْنَهما رحَلَ على إثْرِها النَّابِغةُ إلى الغَساسِنةِ، حتَّى قُتِلَ عَمْرُو بنُ هِنْدٍ على يَدَيْ عَمْرِو بنِ كُلْثومٍ، وتَولَّى المُلْكَ النُّعْمانُ بنُ المُنذِرِ، فرجَعَ إليه النَّابِغةُ وحَظيَ بمَكانةٍ عنْدَه، وأغْدَقَ عليه العَطايا.
لكنْ لم يَلبَثِ الأمْرُ أن تَغيَّرَ، وتَبدَّلَتِ المَودَّةُ إلى أن أحلَّ النُّعْمانُ دَمَ النَّابِغةِ، وقدِ اخْتَلفَ المُؤَرِّخونَ والأُدَباءُ في سَبَبِ ذلِك؛ فقيلَ: بلَغَ النُّعْمانَ أنَّه هَجاه بقَولِه:
مَلِكٌ يُلاعِبُ أمَّه وقَطينَهُ
رِخْوُ المَفاصِلِ أيْرُه كالمِرْوَدِ
وقيلَ: هجاه بقَصيدةٍ فيها:
قَبَحَ اللهُ ثُمَّ ثنَّى بلَعْنٍ
وارِثَ الصَّائِغِ الجَبانَ الجَهولا
مَن يَضرُّ الأدْنى ويَعجِزُ عن
ضُرِّ الأقاصي ومَن يَخونُ الخَليلا
يَجمَعُ الجَيْشَ ذا الأُلوفِ ويَغْزو
ثُمَّ لا يَرزَأُ العَدُوَّ فَتيلا
وقيلَ: بل وصَفَ المُتجرِّدةَ زَوْجَ النُّعْمانِ وَصْفًا حِسِّيًّا، وتَغزَّلَ في مَحاسِنِها وأوْصافِها، وقيلَ: حسَدَه بعضُ نُدَماءِ المَلِكِ لمَكانتِه وحُظْوَتِه، فقالَ عليه ما لم يَقُلْ.
لمَّا علِمَ النَّابِغةُ بذلِك هرَبَ بنفْسِه إلى الغَساسِنةِ، فأقامَ فيهم، غيْرَ أنَّه لم يَنْسَ النُّعْمانَ بنَ المُنذِرِ، وكانَ يَتَحيَّنُ الفُرصةَ للرُّجوعِ إليه، والاعْتِذارِ عمَّا بدَرَ مِنه، أو ما افْتُريَ فيه عليه، وقد قوَّى رَغْبتَه تلك أنَّ قَوْمَه مِن الذُّبْيانيِّينَ كانوا كَثيري الإغارةِ على الغَساسِنةِ، يَأخُذونَ دَوابَّهم وخُيولَهم، فكانَ ذلك يُقلِّلُ مِن مَكانةِ النَّابِغةِ عنْدَهم.
وقدِ اسْتَطاعَ النَّابِغةُ أن يَتوسَّلَ برَجُلَينِ مِن أهْلِ الحِيرةِ، ودخَلَ مُتَخفِّيًا معَهما إلى المَلِكِ، وأنْشَدَه اعْتِذارِيَّاتِه المَشْهورةَ، فعَفا عنه المَلِكُ وأعادَ وِصالَه [229] يُنظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/156)، ((الأدب الجاهلي قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات والأشقر (ص: 267). .
وقد كانَ النَّابِغةُ الحَكَمَ الَّذي يُفاضِلُ بيْنَ الشُّعَراءِ؛ حيثُ كانَت تُضرَبُ له قُبَّةٌ في سوقِ عُكاظٍ، فيَقصِدُه الشُّعَراءُ فيَعرِضونَ أشْعارَهم، فيُجيزُ ويَسْتَحسِنُ ويَسْتقبِحُ. وتَفْضيلُه الخَنْساءَ على حسَّانَ أمْرٌ مَشْهورٌ؛ فقدْ دخَلَ على النَّابِغةِ حسَّانُ بنُ ثابِتٍ، وعنْدَه الخَنْساءُ تُنشِدُه قَصيدتَها الَّتي تَرْثي فيها أخاها صَخْرًا، ومَطلَعُها:
قَذًى بعَيْنِك أمْ بالعَيْنِ عُوَّارُ
فعجِبَ لها النَّابِغةُ وقال: لولا أنَّ أبا بَصيرٍ أنْشَدَني قبْلَكِ لقُلْتُ: إنَّكِ أشْعَرُ النَّاسِ، أنتِ واللهِ أشْعَرُ مِن كلِّ ذاتِ مَثانةٍ! فقالَ حسَّانُ: أنا واللهِ أشْعَرُ مِنكَ ومِنها! فقالَ النَّابِغةُ: حيثُ تقولُ ماذا؟ قالَ: حيثُ أقولُ:
لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعْنَ بالضُّحى
وأسْيافُنا يَقطُرْنَ مِن نَجْدةٍ دَما
ولَدْنا بَني العَنْقاءِ وابْنَي مُحرِّقٍ
فأكْرِمْ بِنا خالًا وأكْرِمْ بِنا ابْنَما
فقالَ: إنَّك لشاعِرٌ لولا أنَّك قلَّلْتَ عَدَدَ جِفانِك وفخَرْتَ بمَن وَلَدْتَ ولم تَفخَرْ بمَن ولَدَك. وفي رِوايةٍ أخرى: قالَ له: إنَّك قلْتَ: «الجَفَناتِ» فقلَّلْتَ العَدَدَ، ولو قُلْتَ «الجِفان» لكانَ أَكْثَرَ، وقلْتَ: «يَلمَعْنَ في الضُّحى» ولو قلْتَ: «يَبرُقْنَ بالدُّجى» لكانَ أبْلَغَ في المَديحِ؛ لأنَّ الضَّيْفَ باللَّيلِ أَكْثَرُ طُروقًا. وقُلتَ: «يَقطُرْنَ مِن نَجْدةٍ دَما» فدَلَّلْتَ على قِلَّةِ القَتْلِ، ولو قلْتَ: «يَجْرينَ» لكانَ أَكْثَرَ لانْصِبابِ الدَّمِ. فقامَ حَسَّانُ مُنْكسِرًا مُنْقطِعًا [230] يُنظر: ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (9/ 232)، ((شرح شواهد المغني)) للسيوطي (1/ 255). .
قالَ أبو عُبَيْدةَ مَعْمَرُ بنُ المُثَنَّى: (يقولُ مَن فَضَّلَ النَّابِغةَ على جَميعِ الشُّعَراءِ: هو أوْضَحُهم كَلامًا، وأقَلُّهم سَقْطًا وحَشْوًا، وأجَوَدُهم مَقاطِعَ، وأحْسَنُهم مَطالِعَ، ولشِعْرِه دِيباجةٌ، إن شئْتَ قُلْتَ: ليس بشِعْرٍ مُولَّفٍ، مِن تَأنُّثِه ولينِه، وإن شئْتَ قُلْتَ: صَخْرةٌ لو رُدِيَتْ بها الجِبالُ لأزالَتْها) [231] ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 166). .
وقد رُوِيَ أنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ عُمَرَ بنَ الخَطَّاِب رَضيَ اللهُ عنه كانَ يُفضِّلُ النَّابِغةَ على جَميعِ الشُّعَراءِ؛ قيلَ: خرَجَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، رَضيَ اللهُ عنه، وببابِه وَفْدُ غَطَفانَ، فقالَ: أيُّ شُعَرائِكم الَّذي يقولُ:
حَلَفْتُ، فلم أتْرُكْ لنفْسِكَ رِيبةً
وليسَ وَراءَ اللهِ للمَرْءِ مَذهَبُ
لَئِن كُنْتَ قد بُلِّغْتَ عنِّي سِعايةً
لمُبلِغُكَ الواشي أغَشُّ وأكْذَبُ
ولسْتُ بمُستَبقٍ أخًا لا تَلُمُّهُ
على شَعَثٍ، أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ
قالوا: النَّابِغةُ يا أميرَ المُؤْمِنينَ، قالَ: فمَنِ القائِلُ:
خَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبالٍ مَتينةٍ
تُمَدُّ بها أيدٍ إليكَ نَوازِعُ
فإنَّكَ كاللَّيلِ الَّذي هو مُدْرِكي
وإن خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عنكَ واسِعُ
قالوا: النَّابِغةُ يا أميرَ المُؤْمِنينَ، قالَ: فمَنِ القائِلُ:
إلى ابنِ مُحَرِّقٍ أعمَلْتُ نَفْسي
وراحِلتي، وقدْ هدَأَتْ عُيونُ
فألْفَيْتُ الأمانةَ لم يَخُنْها
كذلك كانَ نُوحٌ لا يَخونُ
أتَيتُكَ عارِيًا خَلِقًا ثِيابي
على خَوْفٍ تُظَنُّ بيَ الظُّنونُ؟
قالوا: النَّابِغةُ يا أميرَ المُؤْمنينَ، قالَ: فمَنِ القائِلُ:
إلَّا سُلَيْمَانَ، إذْ قالَ المَليكُ له:
قُمْ في البَرِيَّةِ فاحْدُدْها عنِ الفَنَدِ
قالوا: النَّابِغةُ يا أميرَ المُؤْمِنينَ، قالَ: هو أشْعَرُ شُعَرائِكم [232] ((جمهرة أشعار العرب)) لأبي زيد القرشي (ص: 72)، ((الأغاني)) للأصفهاني (11/ 6). .
واخْتَلفَوا في مُعلَّقتِه؛ فقالَ الجُمْهورُ: هي القَصيدةُ الَّتي مَطلَعُها:
‌يا ‌دارَ ‌مَيَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ
أقْوَتْ وطالَ عليها سالِفُ الأمَدِ [233] ((ديوان النابغة الزبياني)) (ص: 14).
وذَكَرَ أبو زيدٍ القُرَشيُّ [234] يُنظر: ((جمهرة أشعار العرب)) لأبي زيد القرشي (ص: 183). أنَّها القَصيدةُ الَّتي مَطلَعُها:
عُوجوا فحَيُّوا لِنُعْمٍ دِمْنَةَ الدَّارِ
ماذا تُحَيُّونَ مِن نُؤْيٍ وأحْجارِ [235] ((ديوان النابغة الزبياني)) (ص: 202).
ومَطلَعُ مُعلَّقتِه -على قَولِ الجُمْهورِ:
يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلْياءِ فَالسَّنَدِ
أَقوَتْ وطالَ عليها سالِفُ الأَبَدِ
وَقَفْتُ فيها أُصَيْلانًا أُسائِلُها
عَيَّتْ جَوابًا وَما بِالرَّبْعِ مِن أَحَدِ
إِلَّا الأَوارِيَّ لَأْيًا ما أُبَيِّنُها
والنُؤْيُ كالحَوْضِ بالمَظْلومةِ الجَلَدِ
رُدَّتْ عليهِ أَقاصيهِ وَلَبَّدَهُ
ضَرْبُ الوَليدةِ بِالمِسْحاةِ في الثَّأَدِ
خَلَّتْ سَبيلَ أَتِيٍّ كانَ يَحبِسُهُ
وَرَفَّعَتْهُ إِلى السَّجْفَينِ فالنَّضَدِ
أَمسَتْ خَلاءً وَأَمْسى أَهلُها احْتَمَلوا
أَخْنى عليها الَّذي أَخْنى على لُبَدِ
فَعَدِّ عَمَّا تَرى إِذ لا ارْتِجاعَ لهُ
وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أُجُدِ
مَقْذوفةٍ بِدَخيسِ النَّحْضِ بازِلُها
لهُ صَريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ
ومِنها:
فتلك تُبلِغُني النُّعْمانَ إنَّ لهُ
فَضْلًا على النَّاسِ في الأدْنى وفي البُعُدِ
أسْرَتْ عليهِ مِن الجَوْزاءِ سارِيةٌ
تُزْجي الشَّمالُ عليه جامِدَ البَرَدِ
فارْتاعَ مِن صَوْتِ كَلَّابٍ فباتَ لهْ
طَوْعَ الشَّوامِتِ مِن خَوْفٍ ومِن صَرَدِ
فبَثَّهُنَّ عليه واسْتَمرَّ بهِ
صُمْعُ الكُعوبِ بَرِيَّاتٌ مِن الحَرَدِ
وكانَ ضُمْرانُ مِنه حيثُ يُوزِعُه
طَعْنُ المُعارِكِ عنْدَ المُحْجَرِ النَّجِدِ
شَكَّ الفَريصةَ بالمِدْرى فأنْفَذَها
طَعْنَ المُبَيْطِرِ إذ يَشْفي مِن العَضُدِ
كأنَّه خارِجًا مِن جَنْبِ صَفْحتِه
سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوه عنْدَ مُفْتأَدِ
ولا أرى فاعِلًا في النَّاسِ يُشْبِههُ
ولا أُحاشي مِن الأقْوامِ مِن أَحَدِ
إلَّا سُلَيْمانَ إذْ قالَ الإلهُ لهُ
قُمْ في البَرِيَّةِ فاحْدُدْها عنِ الفَنَدِ
ومِنها:
أُنْبِئْتُ أنَّ أبا قابوسَ أوْعَدَني
ولا قَرارَ على زَأْرٍ مِنَ الأسَدِ
مَهْلًا فِداءٌ لكَ الأقْوامُ كلُّهمُ
وما أُثَمِّرُ مِن مالٍ ومِن وَلَدِ
لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ لهُ
وإن تَأثَّفَكَ الأعْداءُ بالرِّفَدِ
فما الفُراتُ إذا هبَّ الرِّياحُ لهُ
تَرْمي غَوارِبُه العِبْرَينِ بالزَّبَدِ
يَمُدُّهُ كُلُّ وادٍ مُترَعٍ لَجِبٍ
فيه رُكامٌ مِن اليَنْبوتِ والخَضَدِ
يَظَلُّ مِن خَوْفِه المَلَّاحُ مُعْتَصِمًا
بالخَيْزُرانةِ بعْدَ الأيْنِ والنَّجَدِ
يَوْمًا بأجْوَدَ مِنه سَيْبَ نافِلةٍ
ولا يَحولُ عَطاءُ اليَوْمِ دُونَ غَدِ
هذا الثَّناءُ فإنْ تَسْمَعْ به حَسَنًا
فلم أُعَرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ
ها إنَّ ذي عَذْرَةٌ إلَّا تكنْ نفَعَتْ
فإنَّ صاحِبَها مُشارِكُ النَّكَدِ [236] ((ديوان النابغة الزبياني)) (ص: 14).

انظر أيضا: