موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ السَّابِعُ: نَشْأةُ الشِّعْرِ


الشِّعْرُ قَديمٌ في فِطْرةِ العَربِ، ما كانَ العَربيُّ في مَبدَأِ عَهْدِه يَنظِمُ الشِّعْرَ، ولا يَعرِفُ ما قَوافيه وأعاريضُه، وما عِلَلُه وزِحافاتُه، ولكنَّه سمِعَ أصْواتَ النَّواعيرِ، وحَفيفَ أوْراقِ الأشْجارِ، وخَريرَ الماءِ، وبُكاءَ الحَمائِمِ؛ فلَذَّ له صَوْتُ تلك الطَّبيعةِ المُتَرنِّمةِ، ولَذَّ له أن يبكيَ لبُكائِها، وأن يكونَ صَداها الحاكيَ لنَغَماتِها، فإذا هو يَنظِمُ الشِّعْرَ مِن حيثُ لا يَفهَمُ مِنه أنَّه خَيالُ قَريحتِه، ولا يُدرِكُ مِن أوْزانِه وضُروبِه إلَّا أنَّها صورةٌ مِن حَرَكاتِ ناقتِه [124] ينظر: ((الشهاب الراصد)) لمحمد لطفي جمعة (ص:327) .
قالَ ابنُ رَشيقٍ: "وكانَ الكَلامُ كلُّه مَنْثورًا فاحْتاجَتِ العَربُ إلى ‌الغِناءِ ‌بمَكارِمِ ‌أخْلاقِها، وطِيبِ أعْراقِها، وذِكْرِ أيَّامِها الصَّالِحةِ، وأوْطانِها النَّازِحةِ، وفُرْسانِها الأمْجادِ، وسُمَحائِها الأجْوادِ؛ لتَهُزَّ أنْفُسَها إلى الكَرَمِ، وتَدُلَّ أبْناءَها على حُسْنِ الشِّيَمِ، فتَوهَّموا أعاريضَ جعَلوها مَوازينَ الكَلامِ، فلمَّا تَمَّ لهم وَزْنُه سمَّوه شِعْرًا؛ لأنَّهم شعَروا به، أي: فَطِنوا" [125] ((العمدة)) لابن رشيق (1/20). .
فإنَّ أوْزانَ الشِّعْرِ مرَّتْ في شِعْرِ العَربِ على أدْوارٍ، فكانَ حُدَاءُ الإبِلِ [126] الحُداءُ: أن يَسوقَ الإبِلَ فيُنشِدُ لها من الرَّجَزِ والشِّعرِ ما تَطرَبُ به وتخِفُّ. يُنظر: ((العين)) للخليل (3/ 279)، ((كتاب الأفعال)) لابن القوطية (ص: 212). أوَّلَ باعِثٍ لهم على قَرْضِ الشِّعْرِ، فكانوا يَحْدُونَها بكَلامٍ وأصْواتٍ تُشبِهُ التَّواقيعَ.
وكانَ أوَّلُ مَن قالَ الرَّجَزَ مُضَرَ بنَ نِزارٍ؛ فإنَّه سقَطَ عن جَمَلٍ فانْكَسرَتْ يَدُه، فحَمَلوه وهو يقولُ:
وا يَداه! وا يَداه!
 وكانَ أحْسَنَ خَلْقِ اللهِ جِرْمًا وصَوْتًا، فأصْغَتِ الإبِلُ إليه وجَدَّتْ في السَّيْرِ، فجعَلَتِ العَربُ مِثالًا لقولِه: "هايَدا هايَدا" يَحْدونَ به الإبِلَ.
وزعَمَ ناسٌ مِن مُضَرَ أنَّ أوَّلَ مَن حَدا رَجُلٌ مِنهم، كانَ في إبِلِه أيَّامَ الرَّبيعِ، فأمَرَ غُلامًا له ببعضِ أمْرٍ، فاسْتَبْطأَه، فضَرَبَه بالعَصا، فجَعَلَ يُنشِدُ في الإبِلِ ويقولُ: يا يَداه، يا يَداه، فقالَ الرَّجُلُ لغُلامِه: الْزَمْ الْزَمْ، واسْتَفْتحَ النَّاسُ الحُداءَ مِن ذلك الوَقْتِ [127] ينظر: ((العمدة)) لابن رشيق (2/314). .
ويُذكَرُ أنَّ أوَّلَ مَن أطالَ الرَّجَزَ الأغْلَبُ العِجْليُّ، وهو شاعِرٌ قَديمٌ، وله:
أَرَجَزًا تُريدُ ‌أَمْ ‌قَصيدا
لقد سألْتَ هَيِّنًا مَوْجودَا
ومِن ثَمَّ طالَتِ الأبْياتُ إلى ما يُسمَّى بالقِطعةِ الَّتي تُعبِّرُ عن أحاسيسِهم الفَنِّيَّةِ، ووصَفوا بها الحُروبَ والخَيلَ والإبِلَ والصَّحْراءَ، وغيْرَ ذلِك مِن مَظاهِرِ حَياتِهم، واسْتَحْدَثوا أوْزانًا أخرى غيْرَ الرَّجَزِ؛ كالطَّويلِ والكامِلِ والوافِرِ، وزادَتِ الأبْياتُ في العَدَدِ، وقُصِّدَتِ القَصائِدُ حتَّى وصَلَتْ بعْدَ ذلِك إلى الصُّورةِ المَعْروفةِ ذاتِ الأبْياتِ الكَثيرةِ، واسْتَحدَثَ العَربُ أوْزانًا أخرى حتَّى وصَلَ عَدَدُ الأوْزانِ والبُحورِ إلى سِتَّةَ عشَرَ وَزْنًا، كما أخْبَرَ بذلِك الخَليلُ بنُ أحْمَدَ، إلَّا أنَّ هذه الأوْزانَ وتلك البُحورَ تَفاوَتَتْ في الاسْتِعمالِ عنْدَ العَربِ؛ فمِنها ما هو كَثيرُ الاسْتِعمالِ حتَّى غلَبَ على مُعظَمِ أشْعارِهم كالطَّويلِ، ومِنه ما هو نادِرٌ قَليلٌ كالمُتدارَكِ.
وقد اخْتَلفَ العُلَماءُ في أوَّلِ مَن أطالَ الشِّعْرَ وقصَّدَ القَصائِدَ، معَ إجْماعِهم أنَّ للشِّعْرِ أوَّلًا لا يُوقَفُ عليه، ولا يُعلَمُ أوَّلُ مَن قالَه، وإنَّما اخْتَلفوا فيمَن نظَم الشِّعْرَ وبلَغَ بأبياتِه عَدَدًا بعْدَ أن كانَ مَقْصورًا على البَيْتَينِ والثَّلاثةِ، وادَّعَتْ كلُّ قَبيلةٍ ذلِك لشُعَرائِها؛ فادَّعَتِ اليَمانيَةُ أنَّه امْرُؤُ القَيْسِ، وبَنو أسَدٍ أنَّه عَبيدُ بنُ الأبْرَصِ، وتَغْلِبُ للمُهَلْهِلِ بنِ رَبيعةَ، وبَكْرٌ لعَمْرِو بنِ قَميئةَ والمُرقِّشِ الأكْبَرِ، وإيادٌ لأبي دُؤادٍ.
وكلُّ هؤلاء المَذْكورينَ مُتَقارِبونَ في المُدَّةِ، ليس بيْنَ أقْدَمِهم وبيْنَ الإسْلامِ مِئةُ سَنةٍ.
إلَّا أنَّ أوَّلَ مَن تُرْوى عنه قَصيدةٌ تَبلُغُ ثَلاثينَ بَيْتًا مِن الشِّعْرِ هو المُهَلْهِلُ عَديُّ بنُ رَبيعةَ، كما ذَكَرَ ذلِك الأصْمَعيُّ [128] يُنظر: ((المزهر في علوم اللغة وأنواعها)) للسيوطي (2/ 404)، ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/ 16).
والمُهَلْهِلُ هو عَديُّ بنُ رَبيعةَ، خالُ امْرِئِ القَيْسِ، وإنَّما سُمِّيَ مُهَلْهِلًا لِهَلْهَلةِ شِعْرِه كهَلْهَلةِ الثَّوْبِ، وهو اضْطِرابُه واخْتِلافُه، وقيلَ: بل لُقِّبَ بذلِك لطِيبِ شِعْرِه ورِقَّتِه؛ فإنَّه رَقَّقَ شِعْرَه، وتَجنَّبَ الكَلامَ الغَريبَ الوَحْشيَّ [129] يُنظر: ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلَّام الجمحي (1/ 39)، ((الموشح)) للمرزباني (ص:89)، ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (7/317). .
ولعلَّ أوَّلَ ما وصَلَنا مِن شِعْرِه الَّذي زادَ فيه على ثَلاثينَ بَيْتًا هو قَصيدتُه المَشْهورةُ الَّتي بَكى فيها أخاه كُلَيْبًا، وكانَ كُلَيْبٌ قد قتَلَه جسَّاسُ بنُ مُرَّةَ في الحَرْبِ بيْنَ بَكْرٍ وتَغْلِبَ، فأنْشَأَ فيه المُهَلْهِلُ قَصائِدَه، مِنها تلك الَّتي أوَّلُها:
أَهاجَ قَذاءَ عَينيَ الادِّكَارُ
هُدُوًّا فَالدُّموعُ لَها انْحِدارُ
وكانَ المُهَلْهِلُ عاكِفًا على الخَمْرِ واللَّهْوِ والتَّشْبيبِ بالنِّساءِ، حتَّى سمَّاه أخوه كُلَيْبٌ ب"زِيرِ النِّساءِ"، أي: جَليسِهنَّ، فلمَّا قُتِلَ أخوه انْصَرفَ عنِ اللَّهْوِ والشَّرابِ، وأقْسَمَ على الثَّأرِ لأخيه، وأنْشَدَ فيه الأشْعارَ الَّتي أجَّجَتْ نارَ الحَرْبِ الَّتي اسْتَمرَتْ أرْبَعينَ سَنةً بيْنَ بَكْرٍ وتَغْلِبَ [130] يُنظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/ 19). .
ثُمَّ جاءَ امْرُؤُ القَيْسِ بعْدَ المُهَلْهِلِ فافْتَنَّ به، واسْتَحدَثَ مَعانيَ جَديدةً، وأطالَ القَصائِدَ، وأحْكَمَ نَسْجَها حتَّى اسْتَوتْ على سوقِها وبلَغتْ أشُدَّها [131] ينظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/19). .
وبذلِك اكْتَملَتْ مَراحِلُ نُمُوِّ الشِّعْرِ، فبدَأَ بالأراجيزِ والمَقْطوعاتِ حتَّى بلَغَ أشُدَّه، وتَعدَّدَتْ أوْزانُه وتَنوَّعَتْ أغْراضُه، ووصَلَ إلى مَرْحلةِ الكَمالِ والنُّضوجِ الَّتي نَراها عنْدَ امْرِئِ القَيْسِ وطَبَقتِه مِن الشُّعَراءِ، فتَعدَّدَتْ صُوَرُ الشِّعْرِ لدى الشُّعَراءِ، وطالَتْ أبْياتُه واخْتَلفَتْ أوْزانُه؛ فجاءَ الطَّويلُ والبَسيطُ، والكامِلُ والوافِرُ، والسَّريعُ والمَديدُ، والمُنْسرِحُ والخَفيفُ، والوافِرُ والمُتقارِبُ، والهَزَجُ والمُتَدارَكُ. وإن كانَ نَظْمُهم في الثَّلاثةِ الأُولى أَكْثَرَ وأوْسَعَ.
وليس بيْنَ أيْدينا شيءٌ مِن وَزْنٍ أو غيْرِ وَزْنٍ يَدُلُّ على طُفولةِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ وحِقَبِه الأُولى، وكيف تَمَّ له تَطوُّرُه حتَّى انْتَهى إلى هذه الصُّورةِ النَّموذجيَّةِ الَّتي تَلقَّيناها مُنْذُ أوائِلِ العَصْرِ الجاهِليِّ [132] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/186). .

انظر أيضا: