موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: قَضيَّةُ الانْتِحالِ


المَقْصودُ بانْتِحالِ الشِّعْرِ هو: قولُ الشِّعْرِ ونِسْبتُه إلى غيْرِ أهْلِه، والكَذِبُ عليهم.
لم يَعرِفِ الجاهِليُّونَ الوَضْعَ في الشِّعْرِ؛ إذ الدَّاعي إلى وَضْعِ الشِّعْرِ وانْتِحالِه وسَرِقتِه هو تَعزيزُ القَبيلةِ، والفَخْرُ بما أنْشَدَه شُعَراؤُها، وقد كانَ في كُلِّ قَبيلةٍ شُعراؤُها المَفْطورونَ على الشِّعْرِ، الَّذين يُحيونَ مَآثِرَ أقْوامِهم ويَفْتَخِرونَ بأيَّامِهم، وإنَّما كانَت غايةُ ما يَفعَلُه الشُّعَراءُ أن يَسرِقَ أحَدُهم المَعنى مِن آخَرَ معَ التَّصرُّفِ في ألْفاظِه ونَحْوِ ذلك، أمَّا أن يَسرِقَ قَصيدةً بتَمامِها فيَنسُبَها لنفْسِه أو لأحَدِ شُعَراءِ قَبيلتِه فلا.
وأوَّلُ ما عُرِفَ انْتِحالُ الشِّعْرِ ووَضْعُه كانَ في قُرَيشٍ بعْدَ الإسلامِ، فقالوا على حسَّانَ بنِ ثابِتٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن الشِّعْرِ ما لا يَليقُ به، ولا يَجوزُ عليه، وقد كانَتْ قُرَيشٌ أقَلَّ النَّاسِ شِعْرًا وشُعَراءَ، ثُمَّ تَواتَرَ الرُّواةُ في الكَذِبِ على الشُّعَراءِ لأسْبابٍ وأغْراضٍ مُخْتلِفةٍ؛ مِنها: تَكْثيرُ الابنِ لشِعْرِ أبيه؛ فإذا كانَ الشَّاعِرُ مُقِلًّا، وكانَ ابنُه راوِيةَ شِعْرِه، فإنَّه يَدفَعُه انْصِرافُ النَّاسِ عنه بعْدَ نَفادِ رِواياتِه أن يَضَعَ مِن نفْسِه شِعْرًا ويَنسُبَه إلى أبيه، كما فعَلَ داودُ بنُ مُتمِّمِ بنِ نُوَيرةَ؛ فإنَّه قدِمَ البَصْرةَ، وظلَّ النَّاسُ يَسْتنشِدونَه أشْعارَ أبيه، حتَّى إذا نفِدَ وهَمَّ القومُ بالانْصِرافِ عنه، بدَأَ يَضَعُ أشْعارًا مِن عنْدِه على مِنوالِ أبيه، يَذكُرُ المَواضِعَ والأيَّامَ والحُروبَ الَّتي كانَ يَذكُرُها أبوه، بَيْدَ أنَّ الأُسلوبَ مُخْتلِفٌ، ففَهِمَ العُلَماءُ أنَّه كانَ يَضَعُها على أبيه [100] يُنظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (1/ 229). .
قالَ ابنُ سلَّامٍ: (فلمَّا راجَعَتِ العَربُ رِوايةَ الشِّعْرِ وذِكْرَ أيَّامِها ومَآثِرَها، اسْتَقلَّ بعضُ العَشائِرِ شِعْرَ شُعَرائِهم، وما ذهَبَ مِن ذِكْرِ وَقائِعِهم، وكانَ قَومٌ قلَّتْ وَقائِعُهم وأشْعارُهم، فأرادوا أن يَلْحَقوا بمَن له الوَقائِعُ والأشْعارُ، فقالوا على ألْسِنةِ شُعَرائِهم، ثُمَّ كانَتِ الرُّواةُ بَعْدُ، فزادوا في الأشْعارِ الَّتي قيلَتْ، وليس يُشكِلُ على أهْلِ العِلمِ زِيادةُ الرُّواةِ، ولا ما وضَعوا، ولا ما وَضَعَ المُولَّدون) [101] ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلَّام الجمحي (1/ 46). .
وكانَ مِن تلك الأسْبابِ أيضًا أن يَضَعَ النُّحاةُ أشْعارًا يَنسُبونَها إلى عُصورِ الاحْتِجاجِ؛ إذ لم يُقبَلْ في الشِّعْرِ والنَّثْرِ وأقْوالِ العَربِ ما بعْدَ القَرْنِ الثَّاني الهِجريِّ بالنِّسبةِ للحَضَرِ، والقَرْنِ الرَّابِعِ بالنِّسبةِ للبادِيةِ، فرُبَّما أرادَ بعضُ النُّحاةِ أن يَستدِلَّ لمَذهَبِه بشيءٍ مِن الشَّواهِدِ، فيَضَعُ بَيْتًا أو أبْياتًا ويَنسُبُها للشُّعراءِ الجاهِليِّينَ أو شُعَراءِ صَدْرِ الإسلامِ، وأَكْثَرُ مَن كانَ يَفعَلُ ذلِك أصْحابُ مَدْرَسةِ الكوفةِ، وقد ذَكَرْنا أنَّ إمامَهم حَمَّادٌ الرَّاوِيةُ، وهو مَنْ هو في الكَذِبِ والانْتِحالِ والوَضْعِ.
كذلك مِن أسْبابِ الوَضْعِ اسْتِشهادُ أصْحابِ المَذاهِبِ العَقَديَّةِ المُنْحرِفةِ، كالمُعْتزِلةِ وأمْثالِهم، بأشْعارٍ مُلَفَّقةٍ لتَعْضيدِ مَذهَبِهم في التَّأويلِ، وذلِك في مِثلِ قَولِهم في قَولِه تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255] ، الكُرسيُّ: العِلمُ، واسْتَدلُّوا بشاهِدٍ لا يُعرَفُ، وهو:
ولا يُكَرْسِئُ عِلمَ اللهِ مَخْلوقُ
ونَظيرُه أيضًا اسْتِدلالُهم على أنَّ الاسْتِواءَ بمَعنى الاسْتِيلاءِ ببَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ يَنسُبونَه للأخْطَلِ، وهو:
حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ على العِراقِ
مِن غَيْرِ سَيفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
وهذا البَيْتُ غيْرُ صَحيحِ النِّسبةِ إلى الأخْطَلِ، وأغْلَبُ الظَّنِّ أنَّه وُضِعَ خِصِّيصَى لِهذا.
وغَرَضٌ آخَرُ مِن أغْراضِ وَضْعِ الشِّعْرِ وأسْبابِه وهو الشَّواهِدُ على التَّاريخِ، وذلِك أنَّ بعضَ المُؤرِّخينَ وأَكْثَرَ القُصَّاصِ ذهَبوا إلى وَضْعِ الشِّعْرِ للتَّأكيدِ على صِحَّةِ واقِعةٍ مِنَ الوَقائِعِ، وذلِك أنَّه ثبَتَ في أفْهامِ بعضِ النَّاسِ أنَّه لا يُقبَلُ خَبَرٌ مِنَ الأخْبارِ إلَّا بالأشْعارِ، حتَّى وضَعَ هؤلاءِ أشْعارًا نسَبوها إلى آدَمَ وسائِرِ الأنْبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ أَكْثَرُ مَن صنَعَ ذلك وأوَّلُهم مُحمَّدَ بنَ إسْحاقَ صاحِبَ السِّيرةِ؛ حيثُ كانَ النَّاسُ يَضَعونَ له الأشْعارَ يَزعُمونَ أنَّها للصَّحابةِ أوِ الجاهِليِّينَ وغيْرِهم، فيَأخُذُها عنهم ويَرْويها كما هي، حتَّى رَوى شِعْرًا لمَن لم يَقُلْ شِعْرًا قطُّ، فنسَبَ الشِّعْرَ لقَوْمِ عادٍ وثَمودَ، وقد كانَ أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ يقولُ: لو كانَ الشِّعْرُ مِثلَ ما وُضِعَ لابنِ إسْحاقَ، ومِثلَ ما يَرْوي الصَّحَفيُّونَ ما كانَتْ إليه حاجةٌ، ولا كانَ فيه دَليلٌ على عِلمٍ.
وكانَ مِن أعْظَمِ أسْبابِ الوَضْعِ وانْتِحالِ الشِّعْرِ اتِّساعُ الرِّوايةِ، وذلِك أن يَأتيَ الرَّاوي فيَضَعَ مِن نفْسِه شِعْرًا لشاعِرٍ مُعيَّنٍ، حتَّى يَسْتكثِرَ به مَحْفوظَه مِنه، ويَزعُمَ أنَّه يَرْوي ما لا يَرْويه الآخَرونَ، خاصَّةً إذا كانَ الرَّاوي عالِمًا بالشِّعْرِ وضُروبِه، يُحسِنُ أن يَنسِجَ الشِّعْرَ على نَسْجِ شاعِرٍ ما، وقد كانَ إمامُ ذلِك حَمَّادًا الرَّاوِيةَ، وإنَّما سُمِّيَ الرَّاوِيةَ لاتِّساعِه في الرِّوايةِ، وكانَ كذَّابًا ماجِنًا يَضَعُ الأشْعارَ ويَنسُبُها إلى غيْرِه. قالَ المُفضَّلُ الضَّبِّيُّ: سُلِّطَ على الشِّعْرِ مِن حَمَّادٍ الرَّاوِيةِ ما أفْسَدَه فلا يَصلُحُ أبدًا! فقيلَ له: وكيف ذلك، أيُخطِئُ في رِوايتِه أم يَلحَنُ؟ قال: ليته كانَ ذلك؛ فإنَّ أهْلَ العِلمِ يَردُّونَ مَن أخْطَأَ إلى الصَّوابِ، ولكنَّه رَجُلٌ عالِمٌ بلُغاتِ العَربِ وأشْعارِها ومَذاهِبِ الشُّعَراءِ ومَعانيهم، فلا يَزالُ يقولُ الشِّعْرَ يُشبِهُ به مَذهَبَ رَجُلٍ ويُدخِلُه في شِعْرِه، ويُحمَلُ ذلِك عنه في الآفاقِ، فتَخْتلِطُ أشْعارُ القُدَماءِ ولا يَتميَّزُ الصَّحيحُ مِنها إلَّا عنْدَ عالِمٍ ناقِدٍ، وأين ذلِك؟! [102] ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (1/ 229-236)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 163). .
قالَ ابنُ سَلَّامٍ: (وليس يُشكِلُ على أهْلِ العِلمِ زِيادةُ الرُّواةِ، ولا ما وضَعوا ولا ما وضَعَ المُولَّدونَ، وإنَّما عَضَلَ بهم أن يَقولَ الرَّجُلُ مِن أهْلِ البادِيةِ مِن ولَدِ الشُّعَراءِ، أو الرَّجُلُ ليس مِن ولَدِهم، فيُشكِلَ ذلك بعضَ الإشْكالِ) [103] ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام الجمحي (1/ 46). .

انظر أيضا: