ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ الكِتابةَ كانَتْ مَوْجودةً في العَصْرِ الجاهِليِّ، وكانَ هناك عَدَدٌ مِن الجاهِليِّينَ ليس بالكَثيرِ على عِلمٍ ودِرايةٍ بالكِتابةِ، وقدْ رُوِيَ أنَّه كانَ هناك مِن الجاهِليِّينَ مَنْ يَعرِفُ أَكْثَرَ مِن لُغةٍ، ويُتقِنُها كإتْقانِه للُغتِه الأُمِّ، مِثلُ: لَقيطِ بنِ يَعْمُرَ الإياديِّ، وعَديِّ بنِ زيدٍ العِباديِّ الَّذي كانَ يَكتُبُ للنُّعْمانِ الأكْبَرِ ، وقد ذَكَرَ الشُّعَراءُ الكِتابةَ وأدَواتِها في شِعْرِهم، وهذا يَدُلُّ على أنَّهم عرَفوها واسْتَخدَموها، ومِن أمْثِلةِ ذلك:
قولُ حاتِمٍ الطَّائيِّ :
أتَعرِفُ أطْلالًا ونُؤْيًا مُهدَّما
كخَطِّكَ في رِقٍّ كِتابًا مُنَمْنَما
وقولُ زُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمى :
يُؤخَّرْ فيُوضَعْ في كِتابٍ فيُدَّخَرْ
لِيومِ الحِسابِ أو يُعَجَّلْ فيُنقَمِ
وقولُ عَبيدِ بنِ الأبْرَصِ :
لِمَنِ الدَّارُ أقفَرَتْ بالجَنابِ
غيْرَ نُؤْيٍ ودِمْنةٍ كالكِتابِ
وقولُه كذلك :
لِمَن دِمنَةٌ أَقوَتْ بِحَرَّةِ ضَرغَدِ
تَلوحُ كعُنوانِ الكِتابِ المُجَدَّدِ
وقولُ عَنْتَرةَ :
ألَا يا دارَ عَبْلةَ بالطَّوِيِّ
كرَجْعِ الوَشْمِ فِي كَفِّ الهَدِيِّ
كوَحْيِ صَحائِفٍ مِن عَهْدِ كِسْرى
فأَهْداها لأَعْجَمَ طِمْطِمِيِّ
وقولُ لَبيدِ بنِ رَبيعةَ العامِريِّ :
وجَلا السُّيولُ عنِ الطُّلولِ كأنَّها
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقْلامُها
وقولُ المُرقِّشِ الأكْبَرِ :
الدَّارُ قَفْرٌ والرُّسومُ كما
رَقَّشَ في ظَهْرِ الأَديمِ قَلَمْ
وقال أبو ذُؤَيبٍ :
عَرَفْتُ الدِّيارَ كرَقْمِ الدَوا
ةِ يَذبُرُها الكاتِبُ الحِمْيَرِيُّ
 بَلْ إنَّ بعضَ الشُّعَراءِ كانَ يَكتُبُ لقَوْمِه ويُرسِلُ لهم، يَظهَرُ ذلك في قولِ لَقيطِ بنِ يَعْمُرَ الإياديِّ، وكانَ قد عَلِمَ بخَبَرِ غَزْوِ كِسْرى لقَوْمِه، فكتَبَ إليهم يُحذِّرُهم، وكانَ آخِرُ ما كتَبَ قولَه :
هذا كِتابِي إليكمْ والنَّذيرُ لكمْ
لِمَنْ رَأى رَأيَهُ مِنكمْ وَمَنْ سَمِعا
ومعَ أنَّ الكِتابةَ كانَتْ مَعْروفةً لديهم فإنَّهم لم يَتَّخِذوها وَسيلةً لحِفْظِ الشِّعْرِ، وذلك لأسْبابٍ كَثيرةٍ؛ مِنها: أنَّ مُعظَمَ النَّاسِ كانوا على جَهْلٍ بها، كما أنَّ أدَواتِ الكِتابةِ حينَئذٍ صَعَّبتِ الأمْرَ عليهم؛ إذ كانَتِ الكِتابةُ حينَئذٍ على الحِجارةِ والجُلودِ والرِّقاعِ وسَعَفِ النَّخْلِ وعِظامِ الحَيَواناتِ، ونَحْوِ ذلك، فلم تكنِ الكِتابةُ مُتَيسِّرةً حينَئذٍ، كذلك فإنَّ طَبيعةَ العَيْشِ في زَمانِهم، واهْتِمامَ القَبائِلِ بشُعَرائِها، وحِفْظَ أشْعارِهم ورِوايتَها لم تُحْوِجِ الشُّعَراءَ إلى البَحْثِ عن وَسيلةٍ لحِفْظِ أشْعارِهم؛ فقدْ طفِقَ الرُّواةُ يَحْفظونَها ويَتَداوَلونَها عبْرَ الأجْيالِ.
وهذا لا يَعْني أنَّ الكِتابةَ قد تُنوسيتْ ولم يَهتَمَّ بها أحَدٌ حينَئذٍ، بل إنَّ بعضَ الشُّعَراءِ اسْتَخدَمَ الكِتابةَ في كِتابةِ أشْعارِه، وقدِ اشْتَهرَ أمْرُ المُعلَّقاتِ وكِتابتِها وتَعْليقِها داخِلَ الكَعْبةِ، وأنَّ النُّعمانَ بنَ المُنْذِرِ أمَرَ بكِتابةِ بعضِ الأشْعارِ ودَفْنِها تحتَ قَصْرِه، وإنْ كانَ بعضُ العُلَماءِ قد شكَّكَ في صِحَّةِ هذه الأخْبارِ، فإنَّ الكِتابةَ كانَتْ مَعْروفةً في ذلك الحينِ، وأنَّهم عدَلوا عنها إلى الرِّوايةِ الشَّفَهيَّةِ والاعْتِمادِ على الحِفْظِ .
وقد أثَّرَتْ طَبيعةُ أولئك العَربِ، ومَيْلُهم إلى حِفْظِ الصَّدْرِ أَكْثَرَ مِن حِفْظِ الكِتابِ، فَضْلًا عن صُعوبةِ الكِتابةِ وأدَواتِها- في حِفْظِ القُرآنِ والحَديثِ عنْدَ ظُهورِ الإسْلامِ؛ فعلى الرَّغْمِ مِن أنَّ الإسلامَ رغَّبَ في الكِتابةِ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ له كَتَبةٌ يَكتُبونَ الوَحْيَ بيْنَ يَدَيه، كما كانَ بعضُ الصَّحابةِ يَكتُبونَ القُرآنَ لأنْفُسِهم، كعائِشةَ وابنِ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنهما- فإنَّ السِّمةَ الغالِبةَ في حِفْظِ القُرآنِ كانَتِ الاعْتِمادَ على المَحْفوظِ في الصُّدورِ، ولم يَنْتبِهِ المُسلِمونَ لِذلك إلَّا بعْدَما اسْتَشْرى القَتْلُ في حَمَلةِ القُرآنِ في الغَزَواتِ وحُروبِ الرِّدَّةِ، فخَشيَ أبو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه أن يَضيعَ شيءٌ مِن القُرآنِ، فأمَرَ بجَمْعِ القُرآنِ كما هو مَعْلومٌ.
في حينِ كانَ تَدْوينُ الحَديثِ وكِتابتُه أنْدَرَ وأقَلَّ؛ فلم يكنْ بيْنَ الصَّحابةِ مَن يَكتُبُ الحَديثَ ويَجمَعُه إلَّا عَدَدٌ قَليلٌ جدًّا؛ كعبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ، وقد رَوى إقْرارَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له على ذلك، فقالَ: (كنتُ أَكتُبُ كلَّ شيءٍ أسمَعُه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُريدُ حِفْظَه، فنَهَتْني قُرَيشٌ عن ذلِكَ وقالوا: تَكتُبُ ورَسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ في الغَضَبِ والرِّضا؟! فأمسَكْتُ حتَّى ذَكَرتُ ذلِكَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ: اكتُبْ فوَالَّذي نَفْسي بيَدِه ما خرَجَ مِنه إلَّا حَقٌّ ) ، وظلَّتْ رِوايةُ الحَديثِ مُعْتمِدةً على النَّقْلِ الشَّفَهيِّ إلى ما قبْلَ نِهايةِ القَرْنِ الأوَّلِ للهِجرةِ، حينَ أمَرَ عُمَرُ بنُ عبْدِ العَزيزِ الزُّهريَّ بجَمْعِ وتَدْوينِ أحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فإذا كانَ القُرآنُ والسُّنَّةُ -على ما لهما مِن أهمِّيَّةٍ وقُدسيَّةٍ عنْدَ المُسلِمينَ- لم يَعْتمِدِ العَربُ على الكِتابةِ في تَدْوينِهما وحِفْظِهما- فلا يُستَغرَبُ أن يكونوا قد اتَّبَعوا ذلِك في الشِّعْرِ الجاهِليِّ .
على أنَّ رِوايةَ الشِّعْرِ في الجاهِليَّةِ وصَدْرِ الإسلامِ لم تَكُنْ صِناعةً مَعْروفةً مَحْدودةً، لها رِجالٌ مَعْروفونَ مُميَّزونَ يَتقلَّدونَ اسمَها، ويَقصِدُهم القاصِدونَ طَلَبًا لِما عنْدَهم مِن مَحْفوظِ الشِّعْرِ والأخْبارِ، ولا كانَ الشُّعَراءُ يُعْطونَ الرُّواةَ أجْرًا على حِفْظِ أشْعارِهم ورِوايتِها، بَلْ كانَ أمْرُ رِوايةِ الشِّعْرِ والأخْبارِ مَوْكولًا كلُّه إلى فِطْرةِ النَّاسِ في التَّلقِّي والتَّذوُّقِ، والحِرْصِ على مَآثِرِ الأهلِ والعَشيرةِ، وحُبِّ التَّغنِّي في حالِ الوَحْدةِ، والوَلوعِ بالإنْشادِ في سَمَرِ اللَّيلِ، والتَّباهي في المَواسِمِ والمَحافِلِ، ونَحْوِ ذلِك مِن دَواعي الحِفْظِ والإنْشادِ والمُفاخَرةِ .
وقد كانَ أَكْثَرُ الرُّواةِ هم الشُّعَراءَ؛ حيثُ كانَ الشَّاعِرُ إذا رَأى مِن نفْسِه مَلَكةَ الشِّعْرِ ونَظْمَه لَزِمَ شاعِرًا مِن الشُّعَراءِ، يَحفَظُ شِعْرَه ويَرويه، حتَّى تَنْموَ مَلَكتُه وتَتَعزَّزَ مَوْهِبتُه، فمَثَلًا كانَ الأعْشى راوِيةً لِخالِه المُسيَّبِ بنِ عَلَسٍ، وكانَ يَأخُذُ مِنه، وكانَ زُهَيْرُ بنُ أبي سُلْمى راوِيةً لزَوْجِ أُمِّه الشَّاعِرِ أَوْسِ بنِ حَجَرٍ، وكانَ كَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ والحُطَيئةُ راوِيَينِ لزُهَيْرٍ، وكانَ هُدْبةُ بنُ حشْرَمٍ راوِيةَ الحُطَيْئةِ، وعن هُدْبةَ رَوى جَميلُ بُثَينةَ، وعن جَميلٍ رَوى كُثَيِّرُ عَزَّةَ، وهكذا في سِلْسِلةٍ مِن هؤلاءِ الشُّعَراءِ الرُّواةِ الَّذين يَأخُذُ بعضُهم عن بعضٍ، فجَرَتْ عادةُ الشُّعَراءِ على ذلِك .
وظلَّتِ الرِّوايةُ الشَّفَهيَّةُ للشِّعرِ باقيةً أزْمانًا مُتَتالِيةً في الجاهِليَّةِ وصَدْرِ الإسلامِ، ويَدُلُّ على ذلك أقْوى الدَّلالةِ أنَّ الحَديثَ النَّبويَّ ظلَّ -في أغْلَبِ أحْوالِه- يَعْتمِدُ على الرِّوايةِ والمُشافَهةِ إلى نِهايةِ القَرْنِ الأوَّلِ للهِجرةِ، وإذا كانَ الحَديثُ بما له مِن مَكانةٍ ومَنزِلةٍ قُدسيَّةٍ لم يَعمِدوا إلى تَدْوينِه تَدْوينًا عامًّا إلَّا بعْدَ مُرورِ نَحْوِ قَرْنٍ على الهِجرةِ الشَّريفةِ، فلا يُستَغرَبُ أن يكونوا قدِ اتَّبَعوا ذلِك في الشِّعْرِ الجاهِليِّ.
ولم يكنِ الشُّعَراءُ وحْدَهم الَّذين يَهتمُّونَ برِوايةِ هذا الشِّعْرِ، فقدْ كانَ يَشرَكُهم في ذلِك الاهْتِمامِ أفْرادُ القَبيلةِ جَميعُهم؛ لأنَّه يُسجِّلُ مَناقِبَ قَوْمِهم وانْتِصاراتِهم في حُروبِهم كما يُسجِّلُ مَثالِبَ أعْدائِهم  .
وبِذلك كانَ الشِّعْرُ عنْدَ العَربِ مَبلَغَ هِمَمِهم ومُنْتهى عِلمِهم ورَفيقَ حِلِّهم وتَرحالِهم، ولأجْلِ ذلِك قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: "كانَ الشِّعْرُ عِلمَ قَوْمٍ لم يكنْ لهم عِلمٌ أصَحُّ مِنه" .