موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الحاديَ عشَرَ: أنْواعُ النَّثْرِ


يَنْقسِمُ النَّثْرُ العَربيُّ إلى أنْواعٍ كَثيرةٍ، مِنها القَديمُ ومِنها الحَديثُ، وقد تَسبَّبَ في هذا الانْقِسامِ اخْتِلافُ المَواقِفِ والأغْراضِ، وطَبيعةُ الشَّخْصِ المُنشِئِ والمُتلقِّي، وفيما يأتي أبْرَزُ أنْواعِ النَّثْرِ في الأدَبِ العَربيِّ:
1- الخَطابةُ: وهي فَنُّ مُشافَهةِ الجَماهيرِ بهَدَفِ إقْناعِهم وحَمْلِهم على ما يُرادُ مِنهم بكَلامٍ بَليغٍ [41] ((فن الخطابة وإعداد الخطيب)) الشيخ على محفوظ (ص: 13 وما بعدها). ، وقيلَ: هي حَديثٌ يُقصَدُ به إثارةُ المَشاعرِ وإلهابُ العَواطِفِ في الحالِ [42] ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) علي الجندي (ص:264). . والخَطابةُ مِن أقْدَمِ فُنونِ النَّثْرِ، كانَتْ قَرينةَ الشِّعْرِ في التَّأثيرِ والإقْناعِ واسْتِمالةِ العُقولِ والقُلوبِ، إلَّا أنَّها كانَتْ دونَه في الذُّيوعِ والانْتِشارِ، وقد عرَفَها العَربُ في الجاهِليَّةِ وعَظُمَ شَأنُها بمَجيءِ الإسلامِ، وما زالتْ لها رِيادتُها ومَكانتُها، وسيأتي مَزيدُ بَيانٍ وتَفْصيلٍ لها.
2- الرَّسائِلُ: وهي لَونٌ مِن النَّثْرِ، تُشبِهُ الخَطابةَ في الأُسلوبِ والمَقصَدِ، إلَّا أنَّها تَخْتلِفُ عنها في كَوْنِها كِتابةً يُرسِلُها المُنشِئُ إلى غائِبٍ عنه، في حينِ أنَّ الخَطابةَ مُشافَهةٌ يُلقيها الرَّجُلُ على جُمْهورٍ مِن الحاضِرينَ [43] ((الصناعتين)) أبو هلال العسكري (ص 136). . وفَنُّ الرَّسائِلِ الأدَبيَّةِ قَديمٌ عِنْدَ العَربِ، إلَّا أنَّه لم يَنَلْ ما نالَه الشِّعْرُ ولا الخَطابةُ مِن المَكانةِ، ويَرجِعُ ذلك إلى صُعوبةِ الكِتابةِ وعُسْرِ أدَواتِها؛ حيثُ كانَتِ الكِتابةُ قَديمًا على الرِّقاعِ والجَريدِ والأحْجارِ ونَحْوِها، كما لم تكنِ الكِتابةُ مُنْتشِرةً بَيْنَهم؛ فقدْ دخَلَ الإسلامُ وفي المَدينةِ ثُلَّةٌ يَسيرةٌ تَعرِفُ القِراءةَ والكِتابةَ، فلمَّا دخَلَ الإسلامُ وحرَّضَ على تَعْليمِ الكِتابةِ، وشجَّعَ القُرآنُ -لكَوْنِه مُعجِزةً مَكْتوبةً- على تَعْليمِ القِراءةِ والكِتابةِ، ازْدَهرتِ الكِتابةُ وتَطوَّرتْ أنْواعُها الأدَبيَّةُ شيئًا فشيئًا.
3- الحِكَمُ والأمْثالُ: مِن أشْهَرِ ألْوانِ النَّثْرِ ذُيوعًا وانْتِشارًا مُنْذُ العَصْرِ الجاهِليِّ وحتَّى الآنَ، وكِلا النَّوْعَينِ يَتميَّزُ بالبَلاغةِ والإيجازِ، ويُوجَدُ في الشِّعْرِ والنَّثْرِ، إلَّا أنَّهما أَكْثَرُ انْتِشارًا في النَّثْرِ. والحِكمةُ: قولٌ بَليغٌ يَتَضمَّنُ حُكْمًا صَحيحًا مُسَلَّمًا به [44] يُنظر: ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) علي الجندي (ص: 260). ، كقولِ القائِلِ: رُبَّ ضارَّةٍ نافِعةٌ، وقولِهم: "مَنْ جَدَّ وَجَدَ". والأمْثالُ: كَلِماتٌ مُخْتصَرةٌ تُورَدُ للدَّلالةِ على أُمورٍ كُلِّيَّةٍ مَبْسوطةٍ، وليس في كَلامِهم أوْجَزُ مِنها؛ ذلك أنَّ أصْلَ تلك الأمْثالِ أقْوالٌ قِيلَتْ في مَواقِفَ مُعيَّنةٍ، فاشْتَهرتْ حتَّى جَرَتْ مَثَلًا يُقالُ في مِثْلِ المَوقِفِ الَّذي جَرى فيه المَوقِفُ الأوَّلُ، كقولِهم: "رجَعَ بخُفَّيْ حُنَينٍ" و"جَزاؤُه جَزاءُ سِنِمَّارٍ" ونَحْوِ ذلك [45] يُنظر: ((الفن ومذاهبه)) شوقي ضيف (ص: 21). .
4- الوصايا: جَمْعُ وَصيَّةٍ، وهي (قولٌ بَليغٌ مُؤثِّرٌ يَتضمَّنُ حَثًّا على سُلوكٍ طَيِّبٍ نافِعٍ، حُبًّا فيمَن تُوَجَّهُ إليه الوَصيَّةُ، ورَغبةً في رِفعةِ شأنِه وجَلْبِ الخَيرِ له) [46] ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) علي الجندي (ص: 268). . وعادةً ما تكونُ الوَصيَّةُ مِن أوْلياءِ الأُمورِ أو ذَوي الفَضْلِ عنْدَ حُلولِ الشَّدائِدِ، أو حُدوثِ الأزَماتِ، أوِ الإحْساسِ بدُنُوِّ الفِراقِ، ونَحْوِ ذلك، وهي وَليدةُ خِبْرةٍ طَويلةٍ في الحَياةِ، وعَقْلٍ واعٍ، وتَفْكيرٍ سَليمٍ، ويَدفَعُ إليها المَودَّةُ الصَّادقةُ والحُبُّ العَميقُ [47] يُنظر: ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) علي الجندي (ص: 268). .
على أنَّ بعضَ الكُتَّابِ يُدرِجُ الوَصايا ضِمْنَ الرَّسائِلِ، ويَجعَلُها لَونًا مِن ألْوانِها.
5- المَقاماتُ: جَمْعُ مَقامةٍ، وهي فَنٌّ مِن فُنونِ النَّثْرِ، عِبارةٌ عن كِتابةٍ حَسَنةِ التَّأليفِ والتَّرْتيبِ، ومَدارُها على رِوايةٍ لَطيفةٍ مُخْتلِفةٍ تُسنَدُ إلى بعضِ الرُّواةِ، والمَقْصودُ مِنها غالِبًا جَمْعُ دُرَرِ الألفاظِ، وغُرَرِ البَيانِ، ونَوادِرِ الكَلامِ، فَضْلًا عن ذِكْرِ الفَرائِدِ البَديعةِ والرَّقائِقِ الأدَبيَّةِ؛ كالرَّسائِلِ المُبتكَرةِ، والخُطَبِ المُحبَّرةِ، والمَواعِظِ المُبْكيةِ، والأضاحيكِ المُلْهيةِ [48] يُنظر: ((جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب)) أحمد بن إبراهيم الهاشمي (1/ 388- 389). .
وقدِ ابْتَكرَ هذا الفَنَّ بَديعُ الزَّمانِ الهَمَذانيُّ، فصاغَ مَقاماتٍ كَثيرةً تَعْتمِدُ على القِصَصِ المُضحِكةِ، وتَحمِلُ نَقْدًا لاذِعًا للمُجْتمَعِ وأحْوالِه، وعلى نَهْجِه سارَ الحَريريُّ [49] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) شوقي ضيف (6/ 318). .
6- المَقالةُ: هي قِطْعةٌ نَثْريَّةٌ يَعرِضُ فيها الكاتِبُ فِكرةً مُحدَّدةً بأُسلوبٍ أدَبيٍّ، وتُعَدُّ المَقالةُ نَوْعًا مِن أنْواعِ النَّثْرِ الأدَبيِّ، لها سِماتُها وخَصائِصُها المُمَيِّزةُ لها، وقد ذاعَ هذا اللَّونُ الأدَبيُّ وانْتَشرَ بصورةٍ واسِعةٍ بظُهورِ الصُّحُفِ والمَجلَّاتِ، ولا يَعْني هذا عَدَمَ وُجودِه قبْلَ ذلك، فقد كانَتِ المَقالاتُ تابِعةً للرَّسائِلِ؛ حيثُ اعْتادَ الأُدَباءُ على تَقْسيمِ الرَّسائِلِ إلى شَخْصيَّةٍ ورَسْميَّةٍ، والشَّخْصيَّةُ مِنها رَسائِلُ الإِخْوانِ والأصْدِقاءِ والأحْبابِ، والرَّسائِلُ العِلميَّةُ الَّتي تَتَضمَّنُ فِكرةً عِلميَّةً أو نَقْديَّةً. وفي رَسائِلِ الجاحِظِ بَيانٌ وغُنْيةٌ [50] يُنظر: ((التحرير الأدبي)) د. حسين علي حسين (ص: 159 وما بعده). .
7- القِصَّةُ: وهي حِكايةٌ مَبْنيَّةٌ على أشْخاصٍ وأحْداثٍ، يُصوِّرُها الأديبُ وَفْقَ أُسلوبِه الأدَبيِّ، وتَتَنوَّعُ بيْنَ القِصَّةِ القَصيرةِ والطَّويلةِ -الرِّواية-. وقدْ عرَفَ العَربُ قَديمًا فَنَّ القِصَّةِ، وظهَرَتْ بَوادِرُه في الأمْثالِ الَّتي تَذكُرُ قِصَّةَ رَجُلٍ يُضرَبُ به المَثَلُ في شيءٍ ما، ويَذْكرونَ لِذلك المَثَلِ أصْلًا انْتَشرَ بَيْنَهم، كقولِهم: "أخْلَفُ مِن عُرْقوبٍ"، وأصْلُ ذلك أنَّ رَجُلًا اسْمُه عُرْقوبٌ أتاه أخٌ له يَسألُه، فقالَ له: إذا أَطلَعَتْ هذه النَّخْلةُ فكُلْ طَلْعَها، فلمَّا أَطلَعَتْ جاءَه الرَّجُلُ، فقالَ له عُرْقوبٌ: دَعْها حتَّى تَصيرَ بَلَحًا، فجاءَه لَمَّا صارَ الطَّلْعُ بَلَحًا، فقالَ له: دَعْها حتَّى تَصيرَ زَهْوًا، فلما أَزهَتْ قالَ له: دَعْها حتَّى تَصيرَ تَمْرًا، فلمَّا أَتمَرَتْ قَطَعَها عُرْقوبٌ، ولم يَظفَرِ الرَّجُلُ مِنه بشيءٍ، فضُرِبَ به المَثَلُ في خُلْفِ الوَعْدِ!
كما عرَفَ الجاهِليُّونَ كذلك التَّصْويرَ القَصَصيَّ في الأعْمالِ الشِّعْريَّةِ، فحَكَوْا فيه مَلاحِمَهم وغَزَواتِهم، كما أشاعوا فيه قِصَصَ المُغامَراتِ العاطِفيَّةِ الَّتي تُعبِّرُ عن جُرأةِ الشَّاعِرِ وشَجاعتِه، وفي شِعْرِ امْرِئِ القَيْسِ مِنها الشَّيءُ الكَثيرُ.
ولمَّا جاءَ الإسلامُ نالَتِ القِصَّةُ حُظْوةً كُبْرى؛ فالقُرآنُ والسُّنَّةُ حَفَلا بالكَثيرِ مِن قِصَصِ السَّابِقينَ.
وفي العَصْرِ العبَّاسيِّ ظهَرَتِ القِصَصُ بصورتِها المَعْروفةِ، بدايةً مِن تَرْجمةِ الكُتُبِ الأجْنَبيَّةِ، إلى أن صارَ لِلعَربِ تُراثُهم القَصَصيُّ المَعْروفُ، فَضْلًا عنِ ابْتِداعِ فَنِّ المَقاماتِ، وصِلتِه اللَّصيقةِ بالقِصَصِ والرِّواياتِ.
وفي العَصْرِ الحَديثِ انْتَشرَ فَنُّ القِصَصِ والرِّواياتِ، وتَعدَّدَتْ مَذاهِبُه ومَدارِسُه، وامْتَلأتِ المَكْتباتُ بآثارِ أصْحابِه مِنه [51] يُنظر: ((التحرير الأدبي) د. حسين علي حسين (ص285 وما بعده)، ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) شوقي ضيف (ص: 15 وما بعده). .

انظر أيضا: