موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ الرَّابِعُ: ابنُ مَنظورٍ (ت: 711هـ)


أبو الفَضلِ جمالُ الدِّينِ مُحَمَّدِ بنِ مُكَرَّمِ -بتشديد الرَّاءِ- بنِ عليِّ بنِ أحمَدَ بنِ أبي القاسِمِ بنِ حقَّةَ بنِ مَنظورٍ الأنصاريُّ الإفريقيُّ ثمَّ المِصْريُّ مِن وَلَدِ رُوَيفِعَ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ.
مَوْلِدُه:
وُلد بمصرَ، وقيل: بطرابلسَ سَنةَ ثلاثينَ وسِتِّ مِائةٍ.
مِن مَشَايِخِه:
ابنُ المقيرِ، ومُرتضى بنُ حاتمٍ، وعبدُ الرَّحيمِ بنِ الطُّفَيلِ، ويوسُفُ بنُ المُخيلي.
ومِن تَلَامِذَتِه:
السُّبكيُّ، والذَّهَبيُّ.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
كان عارِفًا بالنَّحوِ واللُّغةِ والتَّاريخِ والكِتابةِ، وتَفرَّدَ في العَوالي، وكان صَدْرًا رَئيسًا، فاضِلًا في الأدَبِ، مَليحَ الإنشاءِ، وكان كَثيرَ الحِفظِ، وكان مُغرًى باختِصارِ كُتُبِ الأدَبِ المُطَوَّلةِ؛ كالأغاني، والعَقدِ، والذَّخيرة، ومُفرَداتِ ابنِ البيطارِ، ولا يَمَلُّ مِن ذلك، وعَمِيَ في آخِرِ عُمُرِه.
عَقيدتُه:
قال عنه السُّيوطيُّ: (عنده تشَيُّعٌ بلا رَفضٍ) [604] ينظر: ((بغية الوعاة)) للسيوطي (1/ 248). ، وكذا نقَلَه عنه ابنُ القاضي المِكْناسيُّ [605] ينظر: ((درة الحجال في أسماء الرجال)) لابن القاضي (2/ 316). .
وهذا الذي ذَكَروه عنه إنَّما هو تقديُم عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه على سائِرِ الصَّحابةِ، واعتِقادُ فَضْلِه، ويَشهَدُ لهذا ما أورده من الأحاديثِ والآثارِ الضَّعيفةِ والموضوعةِ في فَضْل عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه [606] ينظر: ((مختصر تاريخ دمشق)) لابن منظور (17/ 297). . مع توقيرِه للصَّحابةِ وإجلالِهم، وأوَّلُهم أبو بكرٍ وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فقد نقل قَولَ الأزهريِّ في تفسيرِ كَلِمةِ "العُمَرَينِ" فقال: ((قال الأزهَريُّ: العُمَرَانِ: أبو بَكرٍ وعُمَرُ، غُلِّب عُمَرُ؛ لأنَّه أخفُّ الاسمينِ، قال: فإن قيل: كيف بُدِئَ بعُمَرَ قبل أبي بكرٍ وهو قَبْلَه وهو أفضَلُ منه؟ فإن العَرَبَ تَفعَلُ هذا؛ يَبدَؤون بالأَخَسِّ، يقولون: ربيعةُ ومُضَرُ، وسُلَيمٌ وعامِرٌ، ولم يَترُكْ قليلًا ولا كثيرًا)). ثم انتقَدَه فقال: ((هذا الكلامُ مِن الأزهريِّ فيه افتِئاتٌ على عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو قولُه: «إنَّ العَرَبَ يبدؤونَ بالأخسِّ» ولقد كان له غُنيةٌ عن إطلاقِ هذا اللَّفظِ الذي لا يليقُ بجلالةِ هذا الموضِعِ المتشَرِّفِ بهذينِ الاسمينِ الكريمينِ في مثالٍ مضروبٍ لعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه! وكان قَولُه: «غُلِّب عُمَرُ؛ لأنَّه أخَفُّ الاسمينِ» يكفيه، ولا يتعرَّضُ إلى هُجنةِ هذه العبارةِ، وحيث اضطُرَّ إلى مِثْلِ ذلك وأحوَجَ نَفْسَه إلى حُجَّةٍ أخرى، فلقد كان قِيَادُ الألفاظِ بيَدِه، وكان يمكِنُه أن يقولَ: إنَّ العَرَب يُقَدِّمون المفضولَ أو يؤخِّرون الأفضَلَ أو الأشرَفَ، أو يبدؤون بالمشروفِ! وأمَّا أفعَلُ على هذه الصِّيغةِ فإنَّ إتيانَه بها دَلَّ على قِلَّةِ مُبالاتِه بما يُطلِقُه من الألفاظِ في حقِّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم! وإن كان أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أفضَلَ فلا يقالُ عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه: أَخَسُّ! عفا اللهُ عنَّا وعنه)) [607] ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 608). .
كما أنَّه ذكر الرَّوافِضَ فقال: ((والرَّوافِضُ: قَومٌ مِنَ الشِّيعةِ، سُمُّوا بذلك لأنَّهم تَرَكوا زيدَ بنَ عَليٍّ؛ قال الأصمَعيُّ: كانوا بايَعوه ثمَّ قالوا له: ابرَأْ مِنَ الشَّيخَينِ نقاتِلْ معك، فأبى وقال: كانا وزيرَيْ جَدِّي فلا أبرَأُ منهما، فرَفَضوه وارْفَضُّوا عنه؛ فسُمُّوا رافِضةً)) [608] ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 157). .
وأنكَرَ ما يذهَبُ إليه الرَّافِضةُ من اعتِقادِ حياةِ الأئمَّةِ، قال: ((والرَّجْعةُ: مَذهَبُ قَومٍ مِنَ العَرَبِ في الجاهِليَّةِ مَعروفٌ عِندَهم، ومَذهَبُ طائفةٍ مِن فِرَقِ المُسلِمينَ مِن أُولي البِدَعِ والأهواءِ، يقولون: إنَّ الميِّتَ يَرجِعُ إلى الدُّنيا ويكونُ فيها حيًّا كما كان، ومن جملتِهم طائِفةٌ من الرَّافِضةِ يقولون: إنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ كَرَّم اللهُ وَجْهَه مُستتِرٌ في السَّحابِ، فلا يخرُجُ مع مَن خرجَ مِن وَلَدِه حتى ينادِيَ مُنادٍ مِن السَّماءِ: اخرُجْ مع فُلانٍ)) [609] ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (8/ 114). .
وإن كان الظَّاهِرُ على ابنِ مَنظورٍ أنَّه يذهَبُ إلى تأويلِ الصِّفاتِ؛ حيث ذكَرَ في تفسيرِ حديثِ صِفةِ النَّارِ: ((حتَّى يَضَعَ اللهُ فيها قَدَمَه)) [610] أخرجه البخاري (6661)، ومسلم (2848) مطولاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ، قال: ((حتى يجعَلَ اللهُ فيها الذين قَدَّمَهم لها مِن شِرارِ خَلْقِه، فهم قَدَمُ اللهِ للنَّارِ، كما أنَّ المُسلِمينَ قَدَمُه إلى الجنَّةِ. والقَدَمُ: كُلُّ ما قَدَّمْتَ مِن خيرٍ أو شرٍّ، وتَقَدَّمَتْ لفلانٍ فيه قَدَمٌ، أي: تقدُّمٌ من خيرٍ أو شَرٍّ، وقيل: وَضْعُ القَدَمِ على الشَّيءِ مَثَلٌ للرَّدعِ والقَمْعِ، فكأنَّه قال: يأتيها أمرُ اللهِ فيَكُفُّها عن طَلَبِ المزيدِ، وقيل: أراد به تسكينَ فورتِها، كما يقالُ للأمرِ تريدُ إبطالَه: وضَعْتُه تحتَ قَدَميَّ، وقيل: حتى يضَعَ اللهُ فيها قَدَمَه، إنَّه متروكٌ على ظاهِرِه ويؤمَنُ به ولا يُفَسَّرُ ولا يُكَيَّفُ)) [611] ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 470). .
وكذلك نَقْلُه الأقوالَ في تفسيرِ الاستواءِ، فقال: ((وقَولُه عزَّ وجَلَّ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] كما تقولُ: قد بلغ الأميرُ منِ بلَدِ كذا وكذا ثمَّ استوى إلى بَلَدِ كذا، معناه: قَصَد بالاستواءِ إليه، وقيل: استوى إلى السَّماءِ صَعِدَ أمْرُه إليها، وفَسَّره ثعلَبٌ فقال: أقبَلَ إليها، وقيل: استولى. الجَوهريُّ: استوى إلى السَّماءِ، أي: قَصَد، واستوى، أي: استولى وظهر، وقال:
قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ
مِن غَيرِ سَيفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
الفَرَّاءُ: الاستواءُ في كلامِ العَرَبِ على وَجهَينِ؛ أحَدُهما: أن يستويَ الرَّجُلُ وينتهيَ شبابُه وقُوَّتُه، أو يستويَ عن اعوِجاجٍ، فهذان وَجهانِ، ووَجهٌ ثالِثٌ أن تقولَ: كان فلانٌ مُقبِلًا على فلانةٍ ثمَّ استوى عَلَيَّ وإليَّ يشاتِمُني، على معنى: أقبَلَ إليَّ وعَلَيَّ، فهذا قَولُه عزَّ وجَلَّ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] ؛ قال الفَرَّاءُ: وقال ابنُ عَبَّاسٍ: ثمَّ استوى إلى السَّماءِ: صَعِد، وهذا كقَولِك للرَّجُلِ: كان قائمًا فاستوى قاعدًا، وكان قاعدًا فاستوى قائمًا. قال: وكلٌّ في كَلامِ العَرَبِ جائزٌ.
وقَولُ ابنِ عَبَّاسٍ: صَعِد إلى السَّماءِ، أي: صَعِدَ أمرُه إلى السَّماءِ. وقال أحمَدُ بنُ يحيى في قَولِه عزَّ وجَلَّ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] : قال: الاستواءُ: الإقبالُ على الشَّيءِ، وقال الأخفَشُ: استوى، أي: علا، تقولُ: استَويتُ فوقَ الدَّابَّةِ وعلى ظَهرِ البَيتِ، أي: عَلَوتُه. واستوى على ظَهرِ دابَّتِه، أي: استقَرَّ. وقال الزَّجَّاجُ في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] : عَمَد وقَصَد إلى السَّماءِ، كما تقولُ: فرغ الأميرُ مِن بلدِ كذا وكذا ثمَّ استوى إلى بلَدِ كذا وكذا، معناه: قَصَد بالاستواءِ إليه. قال داودُ بنُ عليٍّ الأصبهانيُّ: كنتُ عندَ ابنِ الأعرابيِّ، فأتاه رجُلٌ فقال: ما معنى قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ؟ فقال ابنُ الأعرابيِّ: هو على عَرْشِه كما أخبرَ، فقال: يا أبا عبدِ اللهِ، إنما معناه استولى، فقال ابنُ الأعرابيِّ: ما يدريك؟! العَرَبُ لا تقولُ: استولى على الشَّيءِ حتى يكونَ له مُضادٌّ، فأيُّهما غَلَب فقد استولى! أمَا سَمِعْتَ قولَ النَّابغةِ:
إلَّا لمِثْلِك، أو مَن أنت سابِقُه
سَبَقَ الجوَادُ إذا استولى على الأَمَدِ
وسُئِل مالِكُ بنُ أنَسٍ: استوى، كيف استوى؟ فقال: الكَيفُ غَيرُ مَعقولٍ، والاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدعةٌ))
[612] ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (14/ 414). . فتأخيرُه اعتِقادَ أهلِ السُّنَّةِ في التفسيرَيْنِ يُشيرُ إلى عَدَمِ قَولِه به.
مُصنَّفاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((لسان العَرَب))، وكتاب: ((مختصر مفردات ابن البيطار))، وكتاب: ((نثار الأزهار في الليل والنهار))، وكتاب: ((مختار الأغاني)).
مِن شِعْرِه:
ضَعْ كِتابي إذا أتاك إلى الأر
ضِ وقَلِّبْه في يديك لِمامَا
فعلى خَتْمِه وفي جانِبَيه
قُبَلٌ قد وضعْتُهنَّ تُؤامَا
كان قَصْدي بها مُباشَرةَ الأر
ضِ وكَفَّيك بالْتِثامي إذا ما
وَفَاتُه:
تُوفِّي سَنةَ إحدى عَشْرةَ وسَبْعِ مِائةٍ [613] يُنظر: ((العبر في خبر من غبر)) للذهبي (4/ 29)، ((فوات الوفيات)) للصفدي (4/ 39) ((الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)) لابن حجر (6/ 15)، ((بغية الوعاة)) للسيوطي (1/ 248)، ((الأعلام)) للزركلي (7/ 108). .

انظر أيضا: