موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الأوَّلُ: الدَّخيلُ مِن الفارِسيَّةِ


إنَّ مُعظَمَ الكَلِماتِ الدَّخيلةِ في اللُّغةِ العَربيَّةِ دَخَلَتْ إليها مِن الفارِسيَّةِ؛ قالَ الأزْهَريُّ: (ومِن كَلامِ الفُرْسِ ما لا يُحْصى مِمَّا قد أعْرَبَتْه العَربُ) [260] ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (10/ 309). ؛ وذلك يَرجِعُ إلى قوَّةِ العَلاقةِ بيْنَ الشَّعْبَينِ العَربيِّ والفارِسيِّ؛ إذ إنَّ السَّبَبَ في إنْشاءِ مَدينةِ الحِيرةِ -وهي حَلَقةُ الاتِّصالِ بيْنَ العَربِ والفُرْسِ- كانَ حِمايةَ حُدودِ فارِسَ مِن غاراتِ البَدْوِ، وكانَ سُكَّانُها مِن أخْلاطٍ شَتَّى، أكْثَرُهم مِن العَربِ، وقد حَكَمَها المَناذِرةُ باسمِ الفُرْسِ، وكانَ الفُرْسُ يَسْتَعينونَ بالمَناذِرةِ في حُروبِهم، كما اسْتَعانَ (بَهْرام گـور) بالنُّعْمانِ بنِ امْرِئِ القَيْسِ -أحَدِ مُلوكِ المَناذِرةِ- لاسْتِعادةِ مُلْكِه بعْدَ وَفاةِ أبيه، فجَهَّزَ له جَيْشًا اقْتَحَمَ به أرْضَ فارِسَ، ففَزِعوا مِنه وأذْعَنوا لبَهْرامَ، وقدْ بَلَغَتْ ثِقةُ الأكاسِرةِ بمُلوكِ المَناذِرةِ مَبلَغًا عَظيمًا؛ فقدْ بَعَثَ (يزدجرد) وَلَدَه (بَهْرامَ) إلى النُّعْمانِ بنِ امْرِئِ القَيْسِ ليَنشَأَ في رِعايتِه، وتَذكُرُ المَصادِرُ أنَّه كانَ يُجيدُ العَربيَّةَ، بلْ وكانَ يَنظِمُ بها الشِّعْرَ [261] يُنظر: ((تاريخ العَرب قبل الإسلام)) لجرجي زيدان (ص: 230، 231). .
وتَدُلُّ الرِّواياتُ التَّاريخيَّةُ على وُجودِ عَلاقاتٍ اجْتِماعيَّةٍ بيْنَ العَربِ والفُرْسِ؛ مِن ذلك أنَّ عَدِيَّ بنَ زيدِ بنِ حَمَّادٍ كانَ أوَّلَ مَن كَتَبَ بالعَربيَّةِ في ديوانِ كِسْرى، وكانَ عَدِيُّ بنُ زيدٍ يُجيدُ العَربيَّةَ والفارِسيَّةَ معًا [262] يُنظر: ((خزانة الأدب)) للبغدادي (1/ 382، 383). .
ونَتيجةً لكلِّ ما سَبَقَ، فقدْ كانَ تَأثيرُ اللُّغةِ الفارِسيَّةِ في اللُّغةِ العَربيَّةِ أقْوى مِن غيْرِها مِن اللُّغاتِ السَّاميَّةِ، وجَديرٌ بالذِّكْرِ أنَّ اللُّغةَ الفارِسيَّةَ الَّتي كانَت في العَصْرِ الجاهِليِّ وعَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ هي اللُّغةُ الفَهْلَويَّةُ، وليستِ الفارِسيَّةَ الحَديثةَ، والاخْتِلافُ بيْنَ اللُّغتَينِ ليس اخْتِلافًا يَسيرًا.
وممَّا تَجدُرُ الإشارةُ إليه أنَّ الكَلِماتِ الفارِسيَّةَ الَّتي تُوجَدُ في الآراميَّةِ أيضًا يَتَنازَعُها احْتِمالانِ: إمَّا أن تكونَ اللُّغةُ الآراميَّةُ تَوَسَّطَتْ بيْنَ اللُّغتَينِ الفارِسيَّةِ والعَربيَّةِ فدَخَلَتِ الكَلِمةُ الآراميَّةُ أوَّلًا ثُمَّ عُرِّبَتْ مِن الآراميَّةِ، أو قد تكونُ الكَلِمةُ دَخَلَتِ اللُّغتَينِ معًا، مُسْتقلَّةً إحْداهما عنِ الأُخرى، ومِثلُ هذا يَحْتاجُ إلى تَحْقيقٍ كَبيرٍ وبَحْثٍ وتَنْقيبٍ، وهو مُحالٌ في أكْثَرِ الأحْوالِ [263] يُنظر: ((التَّطوُّر النحوي)) لبرجشتراسر (ص: 216). .
ولم يكنِ التَّأثيرُ الفارِسيُّ مَقْصورًا على المَناطِقِ الَّتي كانَت تُجاوِرُ مَمْلكةَ فارِسَ، بلِ الثَّابِتُ في المَصادِرِ التَّاريخيَّةِ وغيْرِها أنَّ بعضَ الفُرْسِ نَزَلوا المَدينةَ قَديمًا، ناشِرينَ بعضَ ألْفاظِ الفارِسيَّةِ بيْنَ أهْلِها؛ يقولُ الجاحِظُ: (ألَا تَرى أنَّ أهْلَ المَدينةِ لمَّا نَزَلَ فيهم ناسٌ مِن الفُرْسِ في قَديمِ الدَّهْرِ عَلِقوا بألْفاظٍ مِن ألْفاظِهم، ولِذلك يُسمُّونَ البِطِّيخَ الخِرْبِزَ، ويُسمُّونَ السَّمِيطَ: الرَّزْدَقَ، ويُسمُّونَ المَصُوصَ: المَزُورَ، ويُسمُّونَ الشِّطْرنجَ: الأَشْتَرْنَجَ) [264] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 40). .
ومِن الألْفاظِ الفارِسيَّةِ الَّتي دَخَلَتِ العَربيَّةَ:
اصْطِلاحاتُ الإدارةِ، مِثلُ:
الدَّهْقانُ: مَأخوذةٌ مِن (دهگـان) أو (ده خان)، و(ده) هو الإقْليمُ أو القَرْيةُ، و(خان)، أي: رَئيسٌ، فهو رَئيسُ القَرْيةِ [265] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 303، 304). .
المَرْزُبانُ: مُركَّبةٌ مِن (مرز) أي: الإقْليمِ والوِلايةِ، و(بان)، أي: صاحِبِ الشَّيءِ والدَّافِعِ عنه، وهو الرَّئيسُ المُقدَّمُ، وأهْلُ اللُّغةِ يَضمُّونَ الميمَ [266] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (4/ 314). .
الفَرْسخُ: وأصْلُها الفارِسيُّ: (فرسگ).
ومِنها ألْفاظٌ دينيَّةٌ، مِثلُ:
(النَّيْروزُ): وهو مُكوَّنٌ مِن جُزْأينِ: (نير)، أي: جَديدٌ، و(روز)، أي: نَهارٌ؛ فمَعْنى (نَيْروز): النَّهارُ الجَديدُ، وهو أوَّلُ السَّنةِ.
والأسْماءُ الخاصَّةُ بالعَجَمِ أو المَجْلوبةُ مِن عنْدِهم:
الصَّوْلجانُ: وهو في الفارِسيَّةِ الحَديثةِ: (چـوگان)، ومَعْناه العُودُ المُعوَجُّ [267] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 422، 423). .
الصَّنْجُ: أصْلُها: چـنگ، وهي آلةٌ للطَّرَبِ واللَّهْوِ [268] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 424، 425)، ((الألْفاظ الفارِسيَّة المعربة)) لأَدِّي شِير (ص: 108). .
الجاموسُ: أصْلُها الفارِسيُّ: گاوميش، مُشتَقَّةٌ مِن (گاو)، أي: البَقَرِ [269] يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (15/ 513). .
أسْماءُ أنْواعِ النَّسائِجِ:
الدِّيباجُ: أصْلُه في الفَهْلويَّةِ: depak [270] في كتابة الكلمة باللغة الفهلوية فإننا نعمد إلى كتابتها بالأحرف اللاتينية أو الأحرف العربية. ، وفي الفارِسيَّةِ الحَديثةِ: ديباه أو ديبا، وهو الحَريرُ [271] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 291). .
الإسْتَبْرَقُ: أصْلُها الفارِسيُّ: اسْتَبَرْه [272] يُنظر: ((المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب)) للسيوطي (ص: 71). ، أي: نَسيجةٌ ثَخينةٌ، ثُمَّ أُطلِقَتْ على الحَريرِ الغَليظِ.
الطَّيْلسانُ: أصْلُه الفارِسيُّ: تالشان، وهو نَوْعٌ مِن الأكْسِيةِ [273] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (6/ 125). [274] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 19 – 23)، ((التَّطوُّر النحوي)) لبراجشتراسر (ص: 212 - 216). .
فائِدةٌ:
اعْتَنى القُدامى بما عُرِّبَ مِن الفارِسيَّةِ أكْثَرَ مِمَّا اعْتَنَوا بما عُرِّبَ مِن غيْرِها، ويَرجِعُ ذلك لأسْبابٍ ثَلاثةٍ:
1- لكَثْرةِ ما عُرِّبَ مِن الفارِسيَّةِ وقِلَّةِ ما عُرِّبَ مِن غيْرِها.
2- لأنَّ الفارِسيَّةَ كانَت مَعْروفةً لدى الكَثيرِ مِنهم، بخِلافِ غيْرِها.
3- لأنَّ الفارِسيَّةَ يُمكِنُ أن تُكتَبَ بالحُروفِ العَربيَّةِ معَ عَدَمِ الإخْلالِ بلَفْظِها في مَوضِعٍ مِن المَواضِعِ، بخِلافِ غيْرِها مِن اللُّغاتِ.
لِذا تَرى القُدامى إذا ذَكَروا كَلِمةً مُعرَّبةً مِن الفارِسيَّةِ يَذكُرونَ أصْلَها، وإذا ذَكَروا كَلِمةً مُعرَّبةً مِن غيْرِها لم يَتَعرَّضوا لبَيانِ أصْلِها، ويَقْتَصِرونَ على القَوْلِ بكَوْنِها مُعرَّبةً مِن الرُّوميَّةِ أو الهِنْديَّةِ أو غيْرِهما [275] يُنظر: ((التقريب لأصول التَّعْريب)) للشيخ طاهر الجزائري (ص: 56). .

انظر أيضا: