موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّاني: كَيفيَّةُ الاستِشْهادِ بالقُرآنِ الكَريمِ


ينقَسِمُ الاستِشهادُ بالقُرآنِ الكريمِ وتَضمينُ الكَلامِ شَيئًا منه عِنْدَ البلاغيِّينَ إلى نَوعَينِ:
الإشارةُ والتَّنبيهُ:
وهو أن يَستَشهِدَ الكاتِبُ بشَيءٍ مِنَ القُرآنِ ويُنَبِّهَ عليه، كقَولِ القَلَقْشَنْديِّ في فَضْلِ الكِتابةِ: (أعظَمُ شاهِدٍ لجَليلِ قَدْرِها، وأقوى دليلٍ على رِفْعةِ شَأنِها: أنَّ اللهَ تعالى نسب تعليمَها إلى نَفْسِه، واعتَدَّه من وافِرِ كَرَمِه وإفضالِه، فقال عَزَّ اسمُه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 3-5] .
مع ما يُروى أنَّ هذه الآيةَ والَّتي قَبْلَها مُفتَتَحُ الوَحْيِ، وأوَّلُ التَّنزيلِ على أشرَفِ نَبيٍّ، وأكَرمِ مُرسَلٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي ذلك مِنَ الاهتمامِ بشَأنِها ورِفعةِ محَلِّها ما لا خَفاءَ فيه.
ثمَّ بيَّن شَرَفَها بأنْ وَصَف بها الحَفَظةَ الكِرامَ مِن مَلائكتِه، فقال جَلَّت قُدرتُه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11]، ولا أعلى رُتْبةً وأبذَخَ شَرَفًا ممَّا وَصَف اللهُ تعالى به مَلائِكَتَه ونَعَت به حَفَظتَه، ثمَّ زاد ذلك تأكيدًا ووَفَّر محَلَّه إجلالًا وتعظيمًا بأنْ أقسَمَ بالقَلَمِ الَّذي هو آلةُ الكِتابةِ وما يُسطَرُ به، فقال تقدَّسَت عَظَمتُه: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 1، 2]) [48] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 63). .
الاقتِباسُ:
وهو أن يُضَمِّنَ كَلامَه شَيئًا مِنَ القُرآنِ الكَريمِ دونَ أن يُنَبِّهَ عليه، فلا يقولُ: "قال اللهُ تعالى" ونَحْوَه ممَّا يدُلُّ على أنَّ ما بَعْدَه قُرآنٌ.
فمِن ذلك خُطْبةُ ابنِ نُباتةَ: (فيا أيُّها الغَفَلَةُ المُطْرِقُون، أَمَا أنتم بهذا الحديثِ مُصَدِّقون، ما لكم لا تُشْفِقون! فوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّه لحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقون)؛ فاقتَبَس ابنُ نُباتةَ في خُطبتِه وأدخَلَ فيها قَولَه تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات: 23].
ومنه قَولُ الحَريريِّ في مَقاماتِه: (أنا أُنَبِّئُكم بتأويلِه، وأُمَيِّز صَحيحَ القَولِ مِن عَليلِه)؛ فإنَّه صدَّر الكَلامَ بقَولِه تعالى: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ [يوسف: 45] .
ومنه في الشِّعْرِ قَولُ الشَّاعِرِ: الطويل
إذا رُمْتُ عنها سَلْوةً قال شافِعٌ
مِنَ الحُبِّ مِيعادُ السُّلُوِّ المقابِرُ
ستَبْقى لها في مُضمَرِ القَلْبِ والحَشَا
سَريرةُ حُبٍّ يومَ تُبْلى السَّرائِرُ
فقد ختم بَيْتَيه بقَولِه تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق: 9] .
وقد يَنقُلُ الكاتِبُ معنى الآيةِ إلى معنًى آخَرَ غَيرِ الَّذي ورَدت فيه، كقَولِ ابنِ الرُّوميِّ: الهزَج
لَئِنْ أخطَأْتُ في مَدْحِـ
ـكَ ما أخطَأْتَ في مَنْعي
لقد أنزَلْتُ حاجاتي
بوادٍ غَيرِ ذي زَرْعِ
اقتبس قَولَه تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: 37] ، والمرادُ مِنَ الآيةِ: لا زَرْعَ فيه ولا ماءَ، وأراد به الشَّاعِرُ: لا مَنْفعةَ مِن ورائِه [49] يُنظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 332)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 338). .

انظر أيضا: