موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الرَّابِعُ: ثَمَرةُ الفَنِّ وغايَتُه


إذا كانت عُلومُ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ -مِن نَحْوٍ وبَلاغةٍ وصَرفٍ وغَيرِها- تَهدُفُ إلى تقويةِ مَلَكةِ التَّعبيرِ عمَّا يَجولُ في الخَواطِرِ، وما يَدورُ في النُّفوسِ مِن عواطِفَ، في سَلاسةٍ ووُضوحٍ وقُوَّةٍ، وبعِباراتٍ سَليمةِ المعنى، رَشيقةِ اللَّفْظِ، جَيِّدةِ الخَيالِ.
وبَطبيعةِ الحالِ فإنَّ فَنَّ الإنشاءِ -وتُشارِكُه عُلومُ البَلاغةِ- هو أحرَصُ عُلومِ العَرَبيَّةِ على ذلك؛ فإنَّه لا يَحرِصُ فحَسْبُ على التَّعبيرِ الصَّحيحِ الواضِحِ البَليغِ، بل يَدفَعُ الإنسانَ للدِّقَّةِ في التَّفكيرِ، واختيارِ أحسَنِ المَعْلوماتِ وأصوَبِها، كما أنَّه ينَمِّي فيه القُدرةَ على تركيزِ عَقْلِه في نُقطةٍ بعَينِها، وكيف يُعْطي حُكْمَه مُؤَيَّدًا بالبُرهانِ بَعيدًا عن التَّحَيُّزِ.
بل إنَّ فَنَّ الإنشاءِ حينَ يَعمَلُ على تقويةِ مَلَكةِ التَّعبيرِ عِندَ الإنسانِ، فإنَّه يُبرِزُ مَلامِحَ إنسانِيَّتِه، ويُهَذِّبُ سُلوكَه وأفكارَه؛ فإنَّ التَّعبيرَ أرقى مَلَكاتِ الإنسانِ؛ فهي مَظهَرُ إنسانِيَّتِه، وكُلَّما ارتَقَت فيه تلك المَلَكةُ أمْعَنَ في معنى الإنسانيَّةِ؛ إذِ التَّعبيرُ والتَّفكيرُ مُتلازِمانِ، فلا ألفاظَ إلَّا وهي تَحمِلُ في ثَنَاياها فِكْرةً ما، ولا تفكيرَ إلَّا وهو مَصوغٌ في عبارةٍ ما، حتَّى إنَّ عُلَماءَ المَنطِقِ قالوا: إنَّ التَّفكيرَ مِن غَيرِ ألفاظٍ ضَرْبٌ مِنَ الوَهْمِ الكاذِبِ، وشبَّهوا التَّفكيرَ واللُّغةَ بوَجْهَيِ النَّقْدِ.
إنَّ مِن غاياتِ فَنِّ الإنشاءِ حينَئِذٍ تِبْيانَ أُصولِ الكِتابةِ، ومُراعاةَ فُنونِها؛ لِتَكونَ المُشارَكةُ بَيْنَ الذِّهْنَينِ المُتفاعِلَينِ -المُتكَلِّمِ والمتَلَقِّي- على أتمِّها؛ ولذا فالإنشاءُ يَحرِصُ على إبلاغِ المخاطَبِ حاجَتَه كمُتكَلِّمٍ، على أن يأتيَ كَلامُه مُوافِقًا لمُقتَضى حالِ الخِطابِ [17] يُنظر: ((الوسيط في قواعد الإملاء والإنشاء)) للطباع (ص: 141)، ((تعليم الإنشاء)) لعمر الدسوقي (ص: 2). .

انظر أيضا: