موسوعة اللغة العربية

المبحث الأوَّلُ: تَصْنيفُ أُسْراتِ اللُّغاتِ


إنَّ تَصْنيفَ اللُّغاتِ إلى أسْراتٍ يَعْني أنَّ اللُّغاتِ المُنْدرِجةَ في أسْرَةٍ لُغويَّةٍ واحِدةٍ تَرجِعُ إلى لُغةٍ واحِدةٍ هي الأصْلُ الَّذي تَفرَّعتْ عنه لُغاتُ الأسْرةِ كلُّها، فعندما يُقالُ بأنَّ العَربيَّةَ والآراميَّةَ لُغتانِ سامِيَّتانِ فالمَقْصودُ أنَّ اللُّغتَين مِن أصْلٍ واحِدٍ، وأنَّهما تَطوَّرتا عن لُغةٍ واحِدةٍ هي اللُّغةُ السَّاميَّةُ الأُولى، وقدِ افْتَرض العُلَماءُ وُجودَ هذه اللُّغةِ في عُصورٍ مُغرِقةٍ في القِدَمِ لتَفْسيرِ انْتِماءِ اللُّغاتِ العَربيَّةِ والآراميَّةِ والحَبَشيَّةِ إلخ... إلى أسْرةٍ لُغويَّةٍ واحِدةٍ، وعندما يَذكُرُ الباحِثون أنَّ اللُّغتَين العَربيَّةَ والفارِسيَّةَ مِن أصْلَين مُخْتلِفَين؛ العَربيَّةُ ساميَّةٌ، والفارِسيَّةُ هِنديَّةٌ أوروبيَّةٌ، فالمَقْصودُ أنَّ كِليهما تَطوَّرتْ عن أصْلٍ مُسْتقِلٍّ، وأنَّهما بذلك مِن أُسْرتَين لُغويَّتَين مُخْتلِفتَين. وتُكوِّنُ الفارِسيَّةُ معَ عَددٍ مِنَ اللُّغاتِ في الهِندِ وأوروبَّا أسْرةً لُغويَّةً كَبيرةً، وهي الأُسْرةُ الهِنديَّةُ-الأوروبِّيَّةُ. لقد أدَّتِ الدِّراسةُ اللُّغويَّةُ المُقارَنةُ في القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ إلى تَصْنيفِ اللُّغاتِ على أساسِ أوجُهِ الشَّبَهِ بينَها، وكلَّما زادتْ أوجُهُ الشَّبَهِ بَينَ لُغتَين أو أكْثَرَ عُدَّتْ هذه اللُّغاتُ الأكْثَرُ تَشابُهًا فَرعًا لُغويًّا في إطارِ الأُسْرةِ اللُّغويَّةِ الواحِدةِ، وبِهذا المَعْنى يَذكُرُ الباحِثون العَربيَّةَ الشَّماليَّةَ والعَربيَّةَ الجَنوبيَّةَ، واللُّغاتِ السَّاميَّةَ في الحَبَشةِ باعْتِبارِها تُكوِّنُ الفَرعَ الجَنوبيَّ مِن أُسْرةِ اللُّغاتِ السَّاميَّةِ؛ لأنَّ هذه اللُّغاتِ أكْثَرُ تَشابُهًا، وتَشترِكُ في صِفاتٍ أكْثَرَ مِنَ الصِّفاتِ الَّتي تَشْترِكُ فيها معَ باقي اللُّغاتِ السَّاميَّةِ، وتَنْقسِمُ الأُسْرةُ الهِنديَّةُ-الأوروبِّيَّةُ بدَورِها إلى عِدَّةِ أفْرُعٍ، فإذا قارَنَ أحدُ الباحِثين اللُّغةَ الأرديَّةَ باللُّغةِ الفَرنسيَّةِ مَثلًا لم يَسْتطعْ أن يَتبيَّنَ أوجُهَ شَبَهٍ تُذكَرُ، ولكنَّ أوجُهَ الشَّبَهِ تَتَّضحُ بمُقارَنةِ اللُّغاتِ الفَرنسيَّةِ والإيطاليَّةِ والإسْبانيَّةِ والرُّومانيَّةِ. تَرجِعُ هذه اللُّغاتُ إلى أصْلٍ واحِدٍ هو اللَّاتينيَّةُ؛ ولِذا تُكوِّنُ هذه اللُّغاتُ فَرعًا واحِدًا مِن أفْرُعِ الأسْرةِ الهِنديَّةِ-الأوروبيَّةِ، وهو الفَرعُ الرُّومانيُّ. وهناك أوجُهُ شَبَهٍ كَبيرةٌ بَينَ الإنْجليزيَّةِ والألْمانيَّةِ وغيرِهما مِن لُغاتِ الفَرعِ الجرمانيِّ مِنَ الأُسْرةِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ.
وتَتَّضحُ أوجُهُ الشَّبَهِ بصُورةٍ مُتزايدَةٍ كلَّما كانتِ النُّصوصُ مَوضِعُ البَحْثِ قَديمةً؛ ولِذا فقد أمْكَنَ عن طَريقِ مُقارَنةِ اللُّغاتِ الأقْدَمِ في كلِّ فَرعٍ مِن أفْرُعِ الأُسْرةِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ إثْباتُ أنَّ هذه اللُّغاتِ مِن أصْلٍ واحِدٍ هو اللُّغةُ الهِنديَّةُ الأوروبِّيَّةُ الأُولى، وكانت مُهمَّةُ البَحْثِ بعد ذلك بَيانَ أوجُهِ الاخْتِلافِ بَينَ هذه اللُّغاتِ، وتَفْسيرَ ذلك بقَوانِينَ تاريخيَّةٍ [280] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 121)، نقلًا عن كتاب حول ملامح واتجاهات التغير اللُّغويّ: ((prinzipien der Sprachgeschichte)) paul. وقد تُرجِمَ هذا الكتابُ إلى الإنجليزيَّةِ: principals of the history of language. london 1890. .
يَقومُ عِلمُ اللُّغةِ المُقارَنُ على دِراسةِ مَجْموعةٍ مِنَ اللُّغاتِ المُنْتميةِ إلى أُسْرةٍ لُغويَّةٍ واحِدةٍ، وليس المَقْصودُ بذلك القُدرةَ على التَّحدُّثِ بهذه اللُّغاتِ القَديمةِ والحَديثةِ، أوِ القُدرةَ على الكِتابةِ بهذه اللُّغاتِ، بلِ المَقْصودُ بَحْثُ هذه اللُّغاتِ، فعلى الرَّغمِ مِن ضَرورةِ مَعْرِفةِ الباحِثِ المُقارِنِ بكلِّ اللُّغاتِ مَوضِعِ المُقارَنةِ؛ فعليه أنْ يَبحَثَ بِنْيةَ ومُعجَمَ هذه اللُّغاتِ بهَدَفِ إيضاحِ العَلاقةِ التَّاريخيَّةِ الَّتي تَربِطُ لُغاتِ الأُسْرةِ الواحِدةِ، وأن يُفسِّرَ هذه العَلاقاتِ بقَوانِينَ ثابِتةٍ مُطَّرِدةٍ، لقد أثْبَت تاريخُ الحَضارةِ في الشَّرقِ والغَربِ أنَّ مُجرَّدَ المَعْرِفةِ باللُّغاتِ المُتشابِهةِ والمُختلِفةِ لا يَعْني بالضَّرورةِ قِيامَ بَحْثٍ مُقارَنٍ فيها، فلم تُؤدِّ مَعْرِفةُ كَثيرٍ مِنَ العُلَماءِ على مَدى القُرونِ بعِدَّةِ لُغاتٍ إلى قِيامِ دِراساتٍ مُقارَنةٍ بالمَعْنى الَّذي حدَث في القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ؛ ففي العُصورِ الوُسْطى كان كَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ يُؤلِّفون بلُغاتٍ، ويَتحدَّثون في حَياتِهم اليَوميَّةِ بلُغاتٍ أخرى [281] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 119- 121). .

انظر أيضا: