موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: عِلمُ اللُّغةِ التَّقابُليُّ


"في إطارِ المَدرَسةِ الوَصفيَّةِ لدِراسةِ اللُّغةِ نشأ حديثًا المنهَجُ التَّقابُليُّ في جانِبِ عِلمِ اللُّغةِ التَّطبيقيِّ في مجالاتٍ متعَدِّدةٍ أهمُّها مجالُ تعليمِ اللُّغاتِ، حيثُ تكونُ هناك صعوباتٌ تصادِفُ من يتعلَّمون لغةً أخرى (لغة ثانية) بالإضافةِ إلى لُغَتِهم الأمِّ، وهذه الصُّعوباتُ ناتجةٌ عن الاختلافِ الموجودِ بَينَ نظامِ اللُّغةِ الأمِّ ونظامِ اللُّغةِ الثَّانية. فمن المُهِمِّ أن يؤخَذَ في الاعتبارِ أنَّ اكتسابَ لُغةٍ جديدةٍ لا يَتِمُّ بمَعزِلٍ عن العاداتِ اللُّغَويَّةِ للُّغةِ الأمِّ التي استقرَّت في ذِهنِ المتعَلِّمِ؛ وذلك لأنَّ أعضاءَ النُّطقِ -وكذلك الجزءُ الخاصُّ باللُّغةِ- في العقلِ حدَث لها أمرانِ:
 أ - تكَيَّف كُلٌّ منها على النِّظامِ الخاصِّ باللُّغةِ الأمِّ بمُستَوياته كُلِّها (صوتيَّةٌ، وصَرفيَّةٌ، وتركيبيَّةٌ، ودلاليَّةٌ).
ب - حَدَث بَينَ العقلِ وأعضاءِ النُّطقِ ما يسمَّى بالتوافُقِ الذِّهنيِّ العَضَليِّ في القدرةِ على أداءِ اللُّغةِ الأمِّ.
 ولْنَضرِبْ بعضَ الأمثلةِ للدِّراسةِ التَّقابُليَّةِ في مجالِ تعليمِ اللُّغاتِ فيما بَينَ العربيَّةِ والإنجليزيَّةِ:
1- على المستوى الصَّوتيِّ: هنالك فَرقٌ بَينَ صوتِ الرَّاءِ في العربيَّةِ وبَينَ صوتِ"R" في الإنجليزيَّةِ. والعادةُ اللُّغَويَّةُ للعَربيِّ في نُطقِ الرَّاءِ العربيَّةِ التي تتَّسِمُ بالتَّكرارِ تغلِبُه حينَ يَنطِقُ بـ "R" الإنجليزيَّةِ. كذلك صوتُ الباءِ في العربيَّةِ صوتٌ واحِدٌ (فونيم واحِدٌ) على حينِ نجِدُ له في الإنجليزيَّةِ صوتَينِ مختَلِفَينِ: B - P ولكُلٍّ منهما فونيم له خصائِصُه النُّطقيَّةُ. وفي المقابِلِ فإنَّ الأصواتَ (ض، ع، خ، ق) تمثِّلُ صعوبةً أمامَ الإنجليزيِّ حينَ يتعَلَّمُ العربيَّةَ.
2- وعلى المُستوى التَّركيبيِّ نجِدُ أنَّ الإنجليزيَّ حينَ يتعَلَّمُ العربيَّةَ يتأثَّرُ بنَسَقِ الإنجليزيَّةِ في تركيبِ الصِّفةِ والموصوفِ؛ فالتَّعبيرُ العَرَبيُّ "جميلٌ جِدًّا" بالإنجليزيةِ هو: Very nice، وقد تعوَّد ذِهنُه على تقديمِ الصِّفةِ، فيقولُ: جِدًّا جميلٌ، جِدًّا عظيمٌ... [178] ((العربية وعلم اللغة الحديث)) محمد محمد داود (ص: 99- 100). .
وممَّا يتميَّزُ به المنهَجُ التقابُليُّ أنَّه (يقابِلُ بَينَ لغتَينِ سواءٌ أكانت اللُّغَتانِ من أُسرةٍ واحدةٍ أم من أُسرَتَينِ مختلفَتَينِ، فيُمكِنُ القيامُ بدراسةٍ تقابُليَّةٍ بَينَ العربيَّةِ والإنجليزيَّةِ "أُسرتان مختَلِفتان"، أو بَينَ العربيَّةِ والعِبريَّةِ "أُسرة واحِدة". أيضًا يشمَلُ المنهَجُ التقابُليُّ دراسةَ لهجةٍ محَلِّيَّةٍ واللُّغةِ الفُصحى داخِلَ لُغةٍ واحدةٍ) [179] ((مدخل إلى علم اللغة)) محمود فهمي حجازي (ص: 26). . يضافُ إلى هذا إمكانيَّةُ الإفادةِ من المنهَجِ التقابُليِّ في مجالِ التَّرجمةِ، وتقديمِ أهَمِّ أوجُهِ الشَّبَهِ والاختلافِ، وأيضًا أهمِّ الخصائِصِ لكُلٍّ من اللُّغَتينِ موضوعِ الترجمةِ؛ ممَّا يساعِدُ في إيجادِ المكافِئِ في حالةِ التَّرجمةِ [180] ((نحو علم الترجمة))، إي. نيدا، ترجمة ماجد النجار (ص: 76). .
ويُعرَفُ عِلمُ اللُّغةِ التَّقابُليُّ أو التَّحْليلُ التَّقابُليُّ اصْطِلاحًا بأنَّه: (أحْدَثُ فُروعِ عِلمِ اللُّغةِ، ومَوضوعُ البَحْثِ فيه المُقابَلةُ بَينَ لُغتَين اثْنتَين أو أكْثَرَ، أو لَهْجتَينِ أو لُغةٍ ولَهْجةٍ، أي: بَينَ مُسْتويَينِ لُغويَّينِ مُتَعاصِرَينِ بهَدَفِ إثْباتِ الفُروقِ بَينَ المُسْتويَينِ؛ لِذا فهو يَعْتمِدُ أساسًا على المَنهَجِ الوَصْفيِّ، أو عِلمِ اللُّغةِ الوَصْفيِّ) [181] ((علم اللغة التقابلي بحوث ودراسات)) أحمد مصطفى أبو الخير (ص: 11). .
واهتمَّت الجامعاتُ الأمريكيَّةُ أوَّلَ الأمرِ ثمَّ الجامعاتُ الأوربيَّةُ بعد ذلك بالدِّراساتِ التقابليَّةِ بهدفِ تيسيرِ تعليمِ اللُّغاتِ لغيرِ أبنائِها، وتهتمُّ مراكِزُ بحوثِ تعليمِ اللُّغاتِ وجمعياتُ اللُّغويِّين في عدَّة بلادٍ في العالم؛ أهمُّها: اليابانُ وألمانيا، بالدِّراساتِ التَّقابُليَّةِ، وتشغَلُ هذه الدِّراساتُ حيِّزًا كبيرًا في المؤتمَراتِ الدَّوليَّةِ لعِلمِ اللُّغة التطبيقيِّ International Conference of applied Linguistics، والكتابُ الوحيدُ المنشور في مقارنةِ لهجةٍ عربيَّةٍ مع الفُصحى هو بحثُ صالح الطعمة:
Salih J. AItoma, The Problem of Diaglossia in Arabic, Harvard University Press 1969. ويقارِنُ اللَّهْجةَ العِراقيَّةَ باللُّغةِ الفُصحى [182] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 41). .
ويَهدُفُ عِلمُ اللُّغةِ التَّقابُليُّ إلى إثْباتِ الفُروقِ بَينَ المُسْتويَينِ؛ ولِذا فهو يَعْتمِدُ أساسًا على عِلمِ اللُّغةِ الوَصْفيِّ، فإذا كان المُسْتويانِ اللُّغويَّانِ قد وُصِفا وَصْفًا دَقيقًا بمَنهَجٍ لُغويٍّ واحِدٍ أمْكنَ بَحْثُهما بعد ذلك بالمَنهَجِ التَّقابُليِّ، وإثْباتُ الفُروقِ بَينَ المُسْتويَينِ يُوضِّحُ جَوانِبَ الصُّعوبةِ في تَعْليمِ اللُّغاتِ؛ فإذا كان أحدُ أبْناءِ اللُّغةِ الإنْجليزيَّةِ يَوَدُّ تَعلُّمَ العَربيَّةِ فالصُّعوباتُ الَّتي تُواجِهُه تَرجِعُ في المَقامِ الأوَّلِ إلى اخْتِلافِ لُغتِه الأمِّ -وهي الإنْجليزيَّةُ- عن اللُّغةِ الَّتي يُريدُ تَعلُّمَها -وهي العَربيَّةُ-. فهناك فُروقٌ فَرديَّةٌ تَجعَلُ بعضَ الأفْرادِ قادِرينَ على تَعلُّمِ اللُّغاتِ الأجْنبيَّةِ أسْرَعَ مِن غيرِهم، ولكنَّ عِلمَ اللُّغةِ التَّقابُليَّ لا يَهتمُّ بهذه الفُروقِ الفَرديَّةِ، بل يَهتمُّ بالفُروقِ المَوضوعيَّةِ؛ ولِذا فهو يُقابِلُ مُسْتويَينِ لُغويَّينِ اثْنَينِ بِهدَفِ بَحْثِ أوجُهِ الاخْتِلافِ بينَهما، والتَّعرُّفِ على الصُّعوباتِ النَّاجِمةِ عن ذلك؛ فالصُّعوباتُ الَّتي تُواجِهُ أبْناءَ اللُّغةِ اليابانيَّةِ في تَعلُّمِهم للعَربيَّةِ ليست هي الصُّعوباتِ الَّتي تُواجِهُ أبْناءَ اللُّغةِ الإسْبانيَّةِ في أثْناءِ تَعلُّمِهم للعَربيَّةِ. وبالمِثلِ، فتَعْليمُ اللُّغاتِ الأجْنبيَّةِ للعَربِ تَخْتلِفُ صُعوباتُه باخْتِلافِ اللُّغةِ المَنْشودَةِ، وهذا مَجالُ عِلمِ اللُّغةِ التَّقابُليِّ، أمَّا تَحْويلُ هذا إلى بَرامِجَ تَطْبيقيَّةٍ معَ التَّوسُّلِ بكلِّ الوَسائِلِ التَّعْليميَّةِ الحَديثةِ فهو مَوضوعُ عِلمِ اللُّغةِ التَّطْبيقيِّ [183] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 41). .
إنَّ المَنهَجَ الوَصْفيَّ مَثلًا مَعْروفٌ أنَّه مَنهَجٌ ليس غيرُ، وبواسِطتِه نَسْتطيعُ أن نَبحَثَ في النَّواسِخِ الدَّاخِلةِ على الجُملةِ الاسميَّةِ مَثلًا، أو في التَّقْديمِ والتَّأخيرِ في الدَّرسِ النَّحْويِّ، فالمَنهَجُ هنا غيرُ المَوضوعِ؛ بدَليلِ اخْتِلافِ المَوضوعاتِ وتَعدُّدِها، أمَّا إذا أجْريتَ تَقابُلًا بَينَ الإنْجليزيَّةِ والعَربيَّةِ في نِظامِ الجُملةِ، وقُلْنا إنَّ الجُملةَ العَربيَّةَ تَبْدأُ باسمٍ يَتلوه اسمٌ، وهو ما يُعرَفُ بالجُملةِ الاسْميَّةِ، أو اسمٍ يَتْلوه فِعلٌ وفاعِلٌ، وهذه هي الجُملةُ الاسْميَّةُ المُركَّبةُ، أو تَبْدأُ بفِعلٍ يَتْلوه فاعِلٌ، وهذه هي الجُملةُ الفِعليَّةُ، في حِينِ أنَّ الجُملةَ الإنْجليزيَّةَ لا تَبْدأُ إلَّا باسمٍ مَتْبوعٍ باسمٍ أو مَتْبوعٍ بفِعلٍ... فإنَّنا في هذه الحالَةِ نكونُ قدِ اسْتَخدمْنا التَّقابُلَ اللُّغويَّ مَوضوعًا ومَنهَجًا، أو قُلْ: طَريقةً للبَحْثِ، وفي الوقتِ نفْسِه جُزئيَّةً مِن جُزئيَّاتِ العِلمِ الَّذي يُعْطي الإنْسانَ مَعْلوماتٍ لم يكنْ يَعرِفُها مِن قبلُ، وأيًّا كانت هذه الجُزئيَّاتُ فهي تَدخُلُ تحت مَوضوعٍ أعَمَّ، وهو عِلمُ اللُّغةِ التَّقابُليُّ [184] يُنظَر: ((في علم اللغة التقابلي دِراسة تطبيقية)) سليمان ياقوت، الإسكندرية (ص: 6- 11). .

انظر أيضا: