موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّاني: عِلمُ اللُّغةِ الوَصْفيُّ


(هو المنهَجُ الذي يكتفي بوَصفِ أيِّ لُغةٍ مِنَ اللُّغاتِ عند شَعبٍ مِنَ الشُّعوبِ، أو لَهجةٍ مِن اللَّهَجاتِ، في وقتٍ مُعيَّنٍ، أي: إنَّه يَبحَثُ اللُّغةَ بَحثًا عَرضيًّا لا طُوليًّا، ويَصِفُ ما فيها مِن ظَواهِرَ لُغويَّةٍ مُختلِفةٍ، ويُسجِّلُ الواقِعَ اللُّغويَّ تَسجيلًا أمينًا، بل إنَّ أنطوان مييه: A. Meillet يَذهَبُ إلى أبعَدَ مِن هذا، حينَ يَرى أنَّ المَنهَجَ الوَصفيَّ يُعنَى بدِراسةِ الاستِعمالِ اللُّغويِّ في عُمومِه، عند شَخصٍ بعَينِه، في زمانٍ بعَينِه، ومَكانٍ بعَينِه) [155] يُنظَر: ((علم اللسان)) لأنطوان مييه (ص: 453)، نقلًا عن: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص: 181- 182). .
(فالمَنهَجُ الوَصفيُّ يَقومُ على أساسِ وَصفِ اللُّغةِ أوِ اللَّهجةِ في مُستوياتِها المُختلِفةِ، أي: في نَواحي أصواتِها، ومَقاطِعِها، وأبنيتِها، ودَلالاتِها، وتَراكيبِها، وألفاظِها، أو في بعضِ هذه النَّواحي، ولا يَتَخطَّى مَرحَلةَ الوَصفِ. والأطالِسُ اللُّغويَّةُ مِثالٌ مِن أمثِلةِ تَطبيقِ هذا المَنهَجِ الوَصفيِّ على اللُّغاتِ واللَّهَجاتِ؛ فهي لا تَعرِضُ علينا سِوى الواقِعِ اللُّغويِّ مُصنَّفًا دون تَدخُّلٍ مِنَ الباحِثِ بتَفسيرِ ظاهِرةٍ، أو تَعليلٍ لاتِّجاهٍ لُغويٍّ هنا أو هناك، وغالِبًا ما تَنصَبُّ هذه الدِّراسةُ الوَصفيَّةُ على اللُّغاتِ واللَّهَجاتِ المُعاصِرةِ، وإن كان بعضُ العُلَماءِ قد قاموا بمُحاوَلاتٍ لدِراسةِ اللُّغةِ دِراسةً وَصفيَّةً في زَمنٍ مُعيَّنٍ في الماضي [156] يُنظَر: ((لغات البشر)) لماريو باي (ص: 73). نقلًا عن: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص: 182). ، فأيُّ دِراسةٍ صَوتيَّةٍ أو صَرفيَّةٍ أو تَركيبيَّةٍ أو دَلاليَّةٍ لإحدى اللَّهَجاتِ القَديمةِ أوِ الحَديثةِ تُعَدُّ دِراسةً وَصفيَّةً.
وقد حقَّق عِلمُ اللُّغةِ الوَصفيُّ في القَرنِ العِشرينَ نَهضةً كُبرى أدَّت إلى كَثيرٍ مِنَ التَّطوُّراتِ المُهمَّةِ في عِلمِ اللُّغةِ المُعاصِرِ، وكان القَرنُ التَّاسعَ عشَرَ حامِلًا لكَثيرٍ مِنَ الإرهاصاتِ لِهذا العِلمِ الحَديثِ) [157] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص: 182). .
لقد ظلَّ العُلَماءُ يَبحَثون اللُّغاتِ في القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ وأوائِلِ العِشرينَ بالمَنهَجِ المُقارَنِ، ولم يكنْ هناك تَصوُّرٌ واضِحٌ لإمْكانِ بَحْثِ اللُّغةِ الواحِدةِ أوِ اللَّهْجةِ الواحِدةِ على نَحْوٍ عِلميٍّ دَقيقٍ، ولكنَّ الباحِثَ السُّويسريَّ دي سوسير: De Saussure أثْبَت بدِراساتِه في نَظريَّةِ اللُّغةِ ووَظيفتِها إمْكانَ بَحْثِ اللُّغةِ الواحِدةِ وَصْفيًّا أو تاريخيًّا [158] يُنظَر: ((أصول البنيوية في علم اللغة والدِّراسات الإثنولوجية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 156-161)، ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 38). ، وبِذلك بدأ الباحِثون في تَطويرِ مَناهِجِ البَحْثِ لتَحْليلِ البِنْيةِ اللُّغويَّةِ، وزاد اهْتِمامُ الباحِثينَ بالمَنهَجِ الوَصْفيِّ في الوِلاياتِ المُتَّحدةِ الأمْريكيَّةِ بعد الحَرْبِ العالَميَّةِ الثَّانيةِ. وأصْبَح المَنهَجُ الوَصْفيُّ المَنهَجَ السَّائِدَ في السَّنَواتِ العشْرِ الماضيةِ عند أكْثَرِ المُشْتغِلينَ بعِلمِ اللُّغةِ الحَديثِ في كلِّ أنْحاءِ العالَمِ [159] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 38). .
(ويُمكِنُ تَطبيقُ المَنهَجِ الوَصفيِّ في تَحليلِ البِنيةِ اللُّغويَّةِ لأيِّ لُغةٍ أو لَهجةٍ؛ فدِراسةُ أبِنيةِ الأفعالِ في لَهجةِ الكُوَيتِ، أوِ النِّظامِ الصَّوتيِّ في لَهجةِ عُمانَ، أو جُملةِ الاستِفهامِ في النَّثرِ العَربيِّ في القَرنِ الرَّابِعِ الهِجريِّ: مَوضوعاتٌ تَدخُلُ في إطارِ عِلمِ اللُّغةِ الوَصفيِّ، وأيُّ دِراسةٍ صَوتيَّةٍ أو صَرفيَّةٍ أو نَحويَّةٍ أو دَلاليَّةٍ لإحدى اللَّهَجاتِ القَديمةِ الوَسيطَةِ أو الحَديثةِ تُعَدُّ دِراسةً وَصفيَّةً. وهناك مَجالاتٌ كَثيرةٌ لبَحثِ النُّقوشِ والنُّصوصِ العَربيَّةِ القَديمةِ بالمَنهَجِ الوَصفيِّ.
فدِراسةُ الأبِنيةِ الصَّرفيَّةِ الَّتي ورَدت مُستخدَمةً في مَجموعةٍ مِنَ النُّقوشِ، أو في مَجموعةٍ مِنَ النُّصوصِ المُنتميةِ إلى مُستوًى لُغويٍّ واحِدٍ- تُعَدُّ دِراسةً صَرفيَّةً بالمَنهَجِ الوَصفيِّ؛ فدِراسةُ أيِّ جانِبٍ مِن جَوانِبِ بِناءِ الجُملةِ في مُستوًى لُغويٍّ واحِدٍ تُعَدُّ دِراسةً نَحويَّةً بالمَنهَجِ الوَصفيِّ. وفضلًا عن هذا فهناك مَجالٌ كَبيرٌ لإعدادِ المَعاجِمِ الصَّغيرةِ الَّتي تُسجِّلُ الألفاظَ الوارِدةَ أوِ المُستخدَمةَ في أحدِ مُستوياتِ الاستِخدامِ اللُّغويِّ، مِثلُ إعدادِ مَعاجِمَ يُسجِّلُ كلٌّ منها الألفاظَ الوارِدةَ في دِيوانٍ بعَينِه، أو في لَهجةٍ واحِدةٍ، وكلُّ هذه الجُهودِ تَتمُّ بالمَنهَجِ الوَصفيِّ [160] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 39). .
إذن، فقد ظلَّ المَنهَجُ المُقارَنُ في الدِّراساتِ سائِدًا حتَّى نِهايةِ القَرنِ التَّاسعَ عشَرَ وبِدايةِ القَرنِ العِشرينَ، وظلَّت نَتائِجُه مَحدودةً في إطارِها الضَّيِّقِ بِناءً على طَبيعةِ هذا المَنهَجِ الَّتي لم تَسمَح إلَّا بإقامَةِ الدِّراسةِ بَينَ فَصيلتَين، أو بَينَ مَجموعةٍ مِنَ اللُّغاتِ ومَجموعةٍ أخرى.
ولمَّا وضَع عِلمُ اللُّغةِ يدَه على المَنهَجِ الوَصفيِّ في أوائِلِ القَرنِ العِشرينَ بما قدَّمه عُلَماءُ اللُّغةِ مِن جُهودٍ مُتواصِلةٍ، ومُحاوَلاتٍ ناجِحةٍ في تَطويرِ مَنهَجِ البَحثِ والدِّراسةِ، وعلى رأسِها الدِّراساتُ الَّتي قام بها العالِمُ السُّويسريُّ دي سُوسِير فيما يتَّصِلُ بنَظريَّتِه (اللُّغةُ ووَظيفتُها)- صار مِنَ المُمكِنِ بَحثُ اللُّغةِ الواحِدةِ وَصفيًّا، بل القَضيَّةِ اللُّغويَّةِ الواحِدةِ.
ومِن هنا ظهَر في الأفُقِ اللُّغويِّ مَنهَجٌ جَديدٌ في تَحليلِ البِنيةِ اللُّغويَّةِ تَحليلًا شامِلًا دَقيقًا، فأقبَل الباحِثون على المَنهَجِ الوَصفيِّ يَصطَنعونَه في بُحوثِهم المُتعدِّدةِ والمُتنوِّعةِ؛ فانتَشر هذا المَنهَجُ في مُنتصَفِ القَرنِ العِشرينَ انتِشارًا واسِعًا، وخاصَّةً في أمريكا [161] يُنظَر: ((في علم اللغة العام)) عبد العزيز أحمد علام (ص: 28، 29). .
وللمَنهَجِ الوَصفيِّ أُسُسٌ عامَّةٌ تتوَزَّعُها أفكارٌ تنظيميَّةٌ للمنهجِ، وقواعِدُ عَمَليَّةٌ في التحليلِ، منها أنَّ الوَصفَ لأيِّ لُغةٍ ينبغي أن يبدأَ من الصُّورةِ المنطوقةِ إلى الصُّورةِ المكتوبةِ باعتبارِ أنَّ اللُّغةَ لها وجهانِ: وَجهُ الكلامِ، ووجهُ الكتابةِ، متَّخِذًا ثلاثَ طُرُقٍ متكامِلةٍ في تحليلِ الظَّاهرةِ اللُّغَويَّةِ، وهي: استقراءُ الظَّاهرةِ (المادَّةِ اللُّغَويَّةِ مُشافَهةً، ثمَّ تقسيمُها أقسامًا، وتسميةُ كُلِّ قِسمٍ منها، ثمَّ وَضعُ المُصطَلَحاتِ الدَّالَّةِ على هذه الأقسامِ لتَصِلَ بعد ذلك إلى وضعِ القواعِدِ الكُلِّيَّةِ والجُزئيَّةِ التي نتَجَت عن الاستقراءِ، ولعالِمِ اللُّغةِ الوَصفيِّ قواعِدُ عَمَليَّةٌ يجِبُ أن يضَعَها في التحليلِ اللُّغَويِّ، وهي على النَّحوِ التَّالي [162] يُنظَر: ((المدارس اللسانية المعاصرة)) نعمان بو قرة (ص: 68، 69). :
أ- الاهتمامُ الخاصُّ بالأصواتِ والصِّيَغِ النَّحويَّةِ لِلُّغةِ المُتكَلَّمةِ.
ب- معرفتُه بالأسُسِ الفُونيميَّةِ والمُورفيميَّةِ التي تسمَحُ بوَصفٍ تفصيليٍّ دقيقٍ [163] يُنظَر: ((منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث)) علي زوين (ص: 11). .
ج- إنَّ مجالَ بحثِ اللِّسانيِّ الصَّوتيِّ يتمَثَّلُ في حقلِ اللُّغاتِ الحيَّةِ؛ حيثُ يمكِنُ تزويدُ الباحِثِ بأحَدِ أبناءِ اللُّغةِ الذين يتكلَّمون بها، وهو الرَّاوي اللُّغَويُّ informant.
د- الخُطَّةُ المُزدَوجةِ التي تجمَعُ بَينَ جمعِ المادَّةِ ثمَّ فَحصِها ومقارنتِها تبدَأُ على شكلِ أسئلةٍ صيغَت خِصِّيصَى ليُمكِنَ عن طريقِ توجيهِها إلى الرَّاوي أن تكشِفَ عن كيفيَّةِ التَّعبيرِ عن أشياءَ مُعَيَّنةٍ في لغتِه، وعادةً ما يُدرِجُ الباحِثُ الكَلِماتِ القصيرةَ السَّهلةَ إلى التَّعبيراتِ الأطوَلِ والجُمَلِ الكامِلةِ، أمَّا الإجاباتُ فيَجِبُ أن تُكتَبَ بالرُّموزِ الصَّوتيَّةِ، وكلَّما سُجِّلت تفصيلاتٌ أكثَرُ كان أفضَلَ، ورُبَّما استُخدِمَ جهازُ التَّسجيلِ أو الأُسطواناتُ [164] يُنظَر: ((منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث)) علي زوين (ص: 12). .
ولقد حَقَّقت اللِّسانيَّاتُ الوَصفيَّةُ في القَرنِ العِشرين نَهضةً كبرى أدَّت إلى كثيرٍ من التطَوُّراتِ المُهِمَّةِ في اللِّسانيَّاتِ المعاصِرةِ، وكان القَرنُ التَّاسِعَ عَشَرَ حامِلًا لكثيرٍ من الإرهاصاتِ لهذا العِلمِ الحديثِ. هذا وقد شَهِد القَرنُ العِشرون ميلادَ مدارِسَ وَصفيَّةٍ متعَدِّدةٍ، أهمُّها:
(1) المدرسةُ البِنيَويَّةُ بمُختَلِفِ اتجاهاتِها.
(2) مدرسةُ النَّحوِ التَّوليديِّ التَّحويليِّ.
(3) اتجاهُ القوالِبِ [165]يُنظَر: ((المدارس اللسانية المعاصرة)) نعمان بو قرة (ص: 69، 70). .
إنَّ المنهَجَ الوَصفيَّ (يُسَجِّلُ الواقِعَ اللُّغَويَّ تسجيلًا أمينًا بهدَفِ الكشفِ عن حقائِقِ النِّظامِ اللُّغَويِّ بمُستَوياتِه المُختَلِفةِ. وتُمثِّلُ الدِّراسةُ الوَصفيَّةُ للُّغةِ خَطًّا أفقيًّا تظهَرُ فيه العلاقاتُ بَينَ العناصِرِ اللُّغَويَّةِ، مُتمَيِّزةً عن حقائِقِ النِّظامِ اللُّغَويِّ بمُستَوياتِه المُختَلِفةِ. إذا أراد الباحِثُ دراسةَ ظاهرةٍ مُحَدَّدةٍ في العربيَّةِ المعاصِرةِ، مِثلُ: ظاهِرةِ الغموضِ في العربيَّةِ المعاصِرةِ مثلًا، فعليه أن يحدِّدَ مستوى الدِّراسةِ من بَينِ المستوى الصَّرفيِّ. 3- الغُموضُ في المُستوى التَّركيبيِّ. 4- الغُموضُ في المُستوى الدَّلاليِّ.
أيضًا يدخُلُ ضِمنَ إطارِ تحديدِ المستوى: تحديدُ المُستوى اللُّغَويِّ للبَحثِ (الفُصحى أم العامِّيَّة)، والخُطوةُ التَّاليةُ هي تحديدُ زَمَنِ الدِّراسةِ: خمسُ سَنواتٍ، عَشْرُ سنواتٍ ... إلخ)، حَسَبَ المدَّةِ التي يراها كافيةً للوفاءِ بحاجةِ البَحثِ. ثمَّ عليه أن يحَدِّدَ مكانَ الدِّراسةِ: في مِصرَ أم في الوَطَنِ العَرَبيِّ كُلِّه ... إلخ. ثمَّ عليه أن يحدِّدَ مصادِرَ المادَّةِ من اختبارِ الشَّرائِحِ التي تمثِّلُ العربيَّةَ المعاصِرةَ تمثيلًا صادقًا: (جرائِدُ، رواياتٌ ... إلخ). ثمَّ يبدأَ في جمعِ المادَّةِ حتَّى يتأكَّدَ من جمعِ مادَّةٍ كافيةٍ لدراسةِ الظَّاهِرةِ موضوعِ البحثِ، بشَرطِ الالتزامِ أثناءَ الجمعِ بالحُدودِ الزَّمانيَّةِ والمكانيَّةِ والمُستوى اللُّغَويِّ للبَحثِ. ثمَّ يبدأُ بَعدَ ذلك في التَّحليلِ من واقِعِ المادَّةِ التي بَينَ يدَيه، فلا يُسَجِّلُ أحكامًا مُسبَّقةً ولا يتأثَّرُ بأحكامٍ قديمةٍ عن اللُّغةِ أو عن الظَّاهرةِ، ويستَخدِمُ في ذلك نَظَريَّاتِ البحثِ الحديثةِ، فمَثَلًا في المستوى الدَّلالي هنالك نظريَّاتٌ للتَّحليلِ الدَّلاليِّ، أهمُّها:
- المجالُ الدَّلاليُّ Semantic Field.
- السِّياقُ Context.
- التَّحليلُ التَّكوينيُّ Compenential analysis.
وبَعدَ التَّحليلِ يَصِلُ إلى وصفٍ دقيقٍ يُعَبِّرُ عن سلوكِ هذه الظَّاهرةِ، ويخرُجُ بنتائِجِ بحثِه) [166] ((العربية وعلم اللغة الحديث)) محمد محمد داود (ص: 96 - 97). .

انظر أيضا: