موسوعة اللغة العربية

المبحث الخامِسُ: اللُّغةُ في مُجْتمعِها البُدائيِّ


شَغَلت قضيَّةُ أصلِ اللُّغةِ وبدايتِها عُقولَ الباحِثين في مجالِ الفلسَفةِ والعُلومِ الإنسانيَّةِ مُنذُ عُهودٍ بعيدةٍ، وقَدَّموا تفاسيرَ متعَدِّدةً وأدِلَّةً مُتبايِنةً لنَشأةِ اللُّغةِ . وذلك أنَّ (اللُّغةَ البُدائيَّةَ كَثيرةُ المُفرَداتِ فيما يَتعلَّقُ بالأشياءِ المَحسوسةِ والأمورِ الجُزئيَّةِ، قَليلةُ الألفاظِ الَّتي تدُلُّ على المَعاني الكُلِّيَّةِ؛ فالرَّجلُ البُدائيُّ قد تُوجَدُ لديه كَلِماتٌ خاصَّةٌ للدَّلالةِ على المَعاني الجُزئيَّةِ؛ كغَسلِ نفسِه، وغَسلِ رأسِه، وغَسلِ شَخصٍ آخَرَ، وغَسلِ رأسِ شَخصٍ آخَرَ، وغَسلِ وجهِه، وغَسلِ وَجهِ شَخصٍ آخَرَ ... إلخ، في حينِ أنَّه لا تُوجَدُ لديه كَلِمةٌ واحِدةٌ للدَّلالةِ على العَمليَّةِ العامَّةِ البَسيطَةِ، وهي: مُجرَّدُ الغَسْلِ) .
وكَثيرًا ما تَخلو مَدلولاتُ الكَلِماتِ في هذا المُجتمَعِ البُدائيِّ مِنَ الدِّقَّةِ، ويَكثُرُ فيها اللَّبسُ والإبهامُ، وهي غالِبًا لا تُعبِّرُ إلَّا عن ضَروراتِ الحَياةِ اليَوميَّةِ؛ ولِذلك كانت جُمَلُها قَصيرةً، ورَوابِطُها قَليلةً. ولا يزالُ بعضُ هذه اللُّغاتِ البُدائيَّةِ يَعتمِدُ حتَّى الآنَ اعتِمادًا كَبيرًا على الإشاراتِ اليَدويَّةِ والجِسميَّةِ لإعطاءِ المَعنى المَقصودِ مِنَ الألفاظِ الَّتي يَنطِقونها، إلى دَرَجةِ أنَّ الأهاليَ يُوقِدون النِّيرانَ لَيلًا؛ لكي يَتمكَّنوا مِن فَهمِ ما يُقالُ؛ لأنَّ الإشاراتِ الَّتي تَصحَبُ الكَلامَ تُكمِلُ النَّاقِصَ مِنَ المُفرَداتِ، وتُحدِّدُ مَدلولَ الكَلِماتِ .
ولا تزالُ في اللُّغاتِ الرَّاقيةِ بَقايا هذه البُدائيَّةِ في بعضِ الإشاراتِ الجِسميَّةِ المُوضِّحةِ للمُرادِ مِنَ الكَلامِ في بعضِ الأحيانِ، وهذا هو السِّرُّ في غُموضِ بعضِ كَلِماتِ الحَديثِ التِّليفونيِّ، أو أحادِيثِ الظَّلامِ. وقد رَوى لنا ذلك ابنُ جنِّي فقال: (وقال لي بعضُ مَشايِخِنا رَحِمَه اللهُ: أنا لا أُحسِنُ أن أكَلِّمَ إنسانًا في الظُّلْمةِ) . كما يقولُ ابنُ جنِّي أيضًا: (وكذلك إن ذَممْتَ إنسانًا ووَصَفْتَه بالضِّيقِ، قُلتَ: سأَلْناه وكان إنسانًا! وتَزْوي وَجهَك وتُقَطِّبُه، فيُغني ذلك عن قَولِك: إنسانًا لَئيمًا أو لَحِزًا أو مُبخَّلًا أو نَحْوَ ذلك) .
وقد تبَلوَرَ من خلالِ هذا الجَدَلِ الدَّائِرِ على مدى قرونٍ عديدةٍ ثلاثةُ اتِّجاهاتٍ رئيسيَّةٍ تتمثَّلُ فيما يأتي :
1- نظريَّةُ التَّوقيفِ أو الإلهامِ الإلهيِّ: ومن أشهَرِ من قالوا بها: أبو عَلِيٍّ الفارِسيُّ، وابنُ حزمٍ الأندَلُسيُّ. واستدَلُّوا على ذلك بقولِ اللهِ تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31] ، وذكَروا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى عَلَّم آدَمَ أسماءَ جميعِ المخلوقاتِ بجميعِ اللُّغاتِ: العَرَبيَّةِ، والفارِسيَّةِ، والسُّريانيَّةِ، والعَبرانيَّةِ، والرُّوميَّةِ، وغيرِ ذلـك، فكان آدَمُ ووَلَدُه يتكلَّمون بها، ثـمَّ إنَّ وَلَدَه تفَرَّقوا في الأرضِ، وعَلِقَ كُلٌّ منهم بلغةٍ من تلك اللُّغاتِ فغَلَبت عليه، واضمَحَلَّ عِندَه ما سواها؛ لبُعْدِ عَهدِهم بها . وقالوا: (إنَّها لو كانت اللُّغاتُ اصطلاحيَّةً لاحتيجَ في التَّخاطُبِ بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخَرَ مِن لغةٍ أو كتابةٍ، وهذه بالطَّبعِ تحتاجُ إلى اصطِلاحٍ سابِقٍ، ويلزَمُ من هذا الدَّورُ والتَّسلسُلُ إلى ما لا نهايةَ، وهو مُحالٌ، فلا بدَّ من الانتِهاءِ إلى التَّوقيفِ) .
2- نظريَّةُ التَّواضُعِ أو النَّظَريَّةُ الاصطِلاحيَّةُ: ويَرَون أنَّ البَشَرَ هم الذين اصطَلَحوا على أصواتٍ مُعَيَّنةٍ يُشارُ بها إلى الأشياءِ حينَ غيابِها، وهـي تقومُ مقامَ الإشارةِ إليها عندَما تكونُ هذه الأشياءُ حاضِرةً. ومن أشهَرِ من قال بهذا الرَّأيِ من عُلَماءِ العربيَّةِ ابنُ جِنِّي، الذي يرى أنَّ أصلَ اللُّغةِ تواضعٌ واصطِلاحٌ ، وكذلك ذهب البعضُ إلى أنَّ اللُّغاتِ كُلَّها اصطِلاحيَّةٌ، استدلالًا بقِصَّةِ حَيِّ بنِ يَقظانَ التي ألَّفها ابنُ طُفيْلٍ. وهناك من ذهَب إلى الجَمعِ بَينَ نظريَّةِ الإلهامِ والتَّواضُعِ، ومن هؤلاء أبو إسحاقَ، الذي نظر في تعارُضِ المذهبَيْنِ، ولم يجِدْ دليلًا نقليًّا أو عقليًّا قاطعًا يُؤيِّدُ مَذهَبَ التَّوقيفِ، مع ضَعفِ دليلِ قَولِ الاصطِلاحيِّين؛ لأنَّه يُفضي إلى سِلسلةٍ غيرِ مُتناهِيةٍ؛ إذ يقتضي الأمرُ أن يَسبِقَ الاصطلاحَ على اللُّغةِ اصطلاحٌ سابِقٌ؛ فقد رأى أبو إسحاقَ الجَمعَ بَينَ الرَّأيَينِ للخروجِ من هذه الدَّائِرةِ المُغلَقةِ، فافترض أنَّ هناك قدرًا معيَّنًا من اللُّغةِ لا بدَّ أنَّه كان إلهامًا وتوقيفًا. وقد تمكَّن الإنسانُ من خلالِ هذا القَدْرِ من تطويرِ اللُّغةِ عن طريقِ الاصطِلاحِ والتَّواضُعِ .
3- نظريَّةُ مُحاكاةِ الأصواتِ الطَّبيعيَّةِ: ويَرَون أنَّ اللُّغةَ بدأت بمحاكاةِ أصواتِ الطَّبيعةِ، كدَويِّ الرِّيحِ، وحَنينِ الرَّعدِ، وخَريرِ الماءِ، وشَحيجِ الحِمارِ، ونَعيقِ الغُرابِ، وصَهيلِ الفَرَسِ، ونَزيبِ الظَّبيِ، ونَحوِ ذلك، ثُمَّ وُلِّدَتِ اللُّغاتُ عن ذلك فيما بَعدُ . وقد ظهرت في العَصرِ الحديثِ نظريَّاتٌ تحمِلُ ذاتَ التوجُّهِ الطَّبيعيِّ في تفسيرِ نشأةِ اللُّغةِ، ومن ذلك ما ظَهَر في بدايةِ القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وعُرِفَ بنظريَّةِ «البـاو - باو»، والتي يرى أصحابُها أنَّ اللُّغةَ نشأتْ عن تقليدِ الأصواتِ الطَّبيعيَّةِ. وقد قال بهذا الرَّأيِ بعضُ عُلَماءِ اللُّغةِ المُحْدَثينِ؛ مِثلُ جِسِيرسون وهِيردِز، وأيَّده من عُلَماءِ اللِّسانيَّات العربيَّةِ: إبراهيم أنيس، وعلي عبد الواحد وافي، ثمَّ هناك نظريَّةُ «الدينق دونق»، وأشهَرُ القائلينَ يُعبِّرُ بها عن شعورِه الدَّاخِليِّ. وذلك عند سماعِه أصواتَ الطَّبيعةِ الخارجيَّةَ، حيث يتوَلَّدُ لديه إحساسٌ وانطباعٌ داخليٌّ، يُعبِّرُ عنه بكَلِماتٍ ومفرداتٍ جديدةٍ تُحاكي صوتَ الطَّبيعةِ الذي انطبع في مخيِّلتِه. وقريبٌ من هذه النَّظَريَّةِ ما يُسَمَّى بنظريَّة «يو - هي - هو»، والتي قال بها الفَرَنسيُّ نُويري (1965)، وهذه النَّظريَّةُ تفتَرِضُ أنَّ اللُّغةَ بدأت بأصـواتٍ عَشوائيَّةٍ، كانت تصاحِبُ النَّشاطَ البَدَنيَّ للمجموعاتِ البَشَريَّةِ أثناءَ أدائِها للأعمالِ الجماعيَّةِ، مِثـُل: الـجـرِّ والرَّفعِ والحَملِ أو القَطعِ. ثمَّ تطوَّرت هذه الأصواتُ العَفْويَّةُ لتُصبِحَ أهازيجَ تُنظِّمُ إيقاعَ العَمَلِ .
وعن الحَيرةِ في الوُصولِ إلى الصَّوابِ في هذه المسألةِ الشَّائِكةِ، يقولُ ابنُ جِنِّي: (واعلَمْ... أنَّني على تقادُمِ الوَقتِ دائِمُ التَّنقيرِ والبحثِ عن هذا الموضِعِ، فأجِدُ الدَّواعيَ والخوالِجَ قويَّةَ التجاذُبِ لي مختَلِفةَ جِهاتِ التغَوُّلِ على فكري، وذلك أنَّني إذا تأمَّلتُ حالَ هذه اللُّغةِ الشَّريفةِ الكريمةِ اللَّطيفةِ وجَدْتُ فيها من الحِكمةِ والدِّقَّةِ والإرهافِ والرِّقَّةِ ما يَملِكُ علَيَّ جانِبَ الفِكرِ، حتَّى يكادَ يَطمَحُ به أمامَ غَلْوةِ السِّحرِ) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظَر: ((منزلة اللغة العربية بين اللغات المعاصرة- دراسة تقابلية)) عبد المجيد الطيب عمر (ص:42).
  2. (2) نقلًا عن: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغوي)) رمضان عبد التواب (ص: 129).
  3. (3) يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغوي)) رمضان عبد التواب (ص: 129).
  4. (4) ((الخصائص)) لابن جني (1/ 248).
  5. (5) ((الخصائص)) لابن جني (2/ 373).
  6. (6) يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) لرمضان عبد التواب (ص: 129- 130).
  7. (7) يُنظَر: ((منزلة اللغة العربية بين اللغات المعاصرة- دراسة تقابلية)) عبد المجيد الطيب عمر (ص:42).
  8. (8) يُنظَر: ((الخصائص)) لابن جني (1/ 42).
  9. (9) يُنظَر: ((لمزهر في علوم اللغة وأنواعها)) للسيوطي، (1/ 19).
  10. (10) يُنظَر: ((الخصائص)) (1/ 41) وما بعدها.
  11. (11) يُنظَر: ((المزهر)) للسيوطي (1/ 20)، ((العربية في العصر الحديث))، عبد الله المعطاني (ص 8).
  12. (12) يُنظَر: ((الخصائص)) لابن جني (1/ 48).
  13. (13) يُنظَر: ((منزلة اللغة العربية بين اللغات المعاصرة- دراسة تقابلية)) عبد المجيد الطيب عمر (ص:45- 46).
  14. (14) يُنظَر: ((الخصائص)) لابن جني (1/ 48).