المَبحَثُ السَّابعُ: النَّحتُ بين السَّماعِ والقِياسِ
الدُّكتورُ إبراهيم نجا رَحمَه اللهُ قرَّر أنَّ (النَّحتَ سماعيٌّ، ليس له قاعِدةٌ يَسيرُ وَفْقَها القائِلونَ، إلَّا في النِّسبةِ للمُرَكَّبِ الإضافيِّ؛ فلقد قال العُلَماءُ: إنَّه مَبنيٌّ على تَركيبِ كَلِمةٍ منَ اللَّفظَينِ على وَزْنِ (فَعْلَلَ) بأخذِ الفاءِ والعَينِ من كُلِّ لَفظٍ، ثُمَّ يُنسَبُ للَّفْظِ الجَديدِ؛ كـ(عَبشَميٍّ) في عَبدِ شَمسٍ، و(عَبدَريٍّ) في عَبدِ الدَّارِ، و(تَيْمَلِي) في تَيْمِ اللَّاتِ، وفي غَيرِ ذلك مَبنيٌّ على السَّماعِ والأخذِ عنِ العَرَبِ)
.
ولكِنْ هناك بَعضُ الباحِثينَ المُتَأخِّرَينَ فَهِموا نَصَّ
ابنِ فارِسٍ فهمًا مُختَلِفًا: (... وهذا مَذَهبُنا في أنَّ الأشياءَ الزَّائِدةَ على ثَلاثةِ أحرُفٍ فأكثَرُها مَنحوتٌ)
؛ فبعضُهم استنتج من هذا النَّصِّ أنَّ
ابنَ فارِس يعتَبِرُ أنَّ النَّحتَ قياسيٌّ وليس سماعيًّا.
يَقولُ الدُّكتور إبراهيم أنيس: (ومع وَفْرةِ ما رُوِيَ من أمثِلةِ النَّحتِ تَحرَّجَ مُعظَمُ اللُّغَويِّينَ في شَأنِه واعتَبروه منَ السَّماعِ، فلَم يُبيحوا لَنا نَحنُ المولَّدِينَ أن نَنهَجَ نَهْجَه أو أن نَنسُجَ على مِنوالِه، ومع هذا فقَدِ عدَّه
ابنُ فارِسٍ قياسيًّا، وعَدَّه
ابنُ مالكٍ في كِتابِه ((التَّسهيل)) قياسيًّا كذلك)
.
يَقولُ
ابنُ مالكٍ في ((التَّسهيل)): (قد يُبنى من جُزأَيِ المُرَكَّبِ "فَعْلَل" بَفاءِ كُلٍّ منهما وعَينِه، فإنِ اعتَلَّتْ عَينُ الثَّاني كَمَل البِناءُ بلامِه أو بلامِ الأوَّلِ ونُسِبَ إليهـ)
.
وقال
أبو حَيَّانَ: (وهذا الحُكمُ لا يَطَّرِدُ، وإنَّما يُقالُ منه ما قالته العَربُ، والمَحفوظُ (عَبْشَمِيٌّ) في عَبدِ شَمسٍ، و(عَبدَريٌّ) في عَبدِ الدَّارِ، و(مَرقَسيٌّ) في امرِئِ القَيسِ، و(عَبقَسيٌّ) في عَبدِ القيسِ، و(تَيْمَليٌّ) في تَيمِ اللهِ)
.
في مجْمَعِ اللُّغةِ العَربيَّةِ في القاهرةِ علَّقَت لجنةُ النَّحتِ على هذا الاختِلافِ بالقَولِ: (... وقد نَقَلْنا فيما تَقَدَّمَ عِبارةَ
ابنِ فارِسٍ في ((فِقْه اللُّغة))، وهيَ لا تُفيدُ القياسيَّةَ إلَّا إذا نُظِرَ إلى أنَّ
ابنَ فارِسٍ ادَّعى أكثَريَّةَ النَّحتِ فيما زادَ عن ثَلاثةٍ، ومع الكَثرةِ تَصِحُّ القياسيَّةُ والاتِّساعُ)
.
وظَلَّ النَّحتُ محَلَّ خِلافٍ بَينَ اللُّغويِّين من حيثُ القياسُ والسَّماعُ، ووقفَ مجمَعُ اللُّغةِ العَربيَّةِ من ظاهرةِ النَّحتِ مَوقِفَ المُتَرَدِّدِ في قَبولِ قياسيَّتِه، فرَأى رِجالُ الطِّبِّ والصَّيدَلةِ والعُلومِ الكيماويَّةِ والحَيَوانيَّةِ والنَّباتيَّةِ في إباحَتِه وسيلةً من خَيرِ الوسائِل التي تُساعِدُهم عِندَ تَرجَمةِ المُصطَلَحاتِ الأجنَبيَّةِ إلى اللُّغةِ العَرَبيَّةِ
.
ومن هنا انتَهى مجمَعُ اللُّغةِ العَربيَّةِ بالقاهرةِ إلى قَرارٍ سنةَ 1948م يُفيدُ: (جَوازَ النَّحتِ في العُلومِ والفُنونِ؛ للحاجةِ المُلحَّةِ إلى التَّعبيرِ عن مَعانيها بألفاظٍ عَرَبيَّةٍ موجَزةٍ)
، ولَكِن اشترط شرطًا، وهو انسِجامُ الحُروفِ عِندَ تَأليفِها في الكَلِمةِ المَنحوتةِ، وتَنزيلُ هذه الكَلمةِ على أحكامِ العَرَبيَّةِ، وصياغَتُها على وزنٍ من أوزانِها.
وإذا تحقَّقَت هذه الشُّروطُ فعند ذلك يكونُ النَّحتُ كغَيرِه من المشتَقَّاتِ وسيلةً من وسائِلِ تنميةِ اللُّغةِ وتجديدِ أساليبِها من أجْلِ التَّعبيرِ والبيانِ والإيضاحِ
.
ويظُنُّ بعضُ الباحثينَ أنَّ النُّحاةَ والقُرَّاءَ العَرَبَ قد خَلَطوا خَلطًا كبيرًا في تَحديدِ المَخارِجِ والصِّفاتِ
، ودليلُهم على ذلك أنَّهم خَلَطوا للحَرفِ الواحدِ بَينَ مَخرَجٍ أو أكثَرَ، أو بَينَ مَخرَجٍ وصفةٍ. وفي حقيقةِ الأمرِ أنَّ هذا الخَلطَ قد نَتَج عن حِرصِ النُّحاةِ في نَقلِ جميعِ الآراءِ إلينا
.