موسوعة اللغة العربية

المبحَثُ الرَّابعُ: المُستَشرِقونَ ورَأيُهم في ظاهِرةِ الإعرابِ


وبَعدَ هذا البَيانِ، فإنَّ هذا الإجماعَ على انفِرادِ العَرَبيَّةِ بظاهرةِ الإعرابِ لم يَلْقَ قَبولًا لَدى بَعضِ المُستَشرِقينَ إلَّا مَشروطًا مُقَيَّدًا؛ فإنَّ منَ المُستَشرِقينَ من كان يَرى الإعرابَ، ومنهم من لم يَكُن يَراه، ومنهم كوهين (Cohen) مَثَلًا في كِتابِه: "لُغاتُ العالَمِ"، وهو لا يُنكِرُ وُجودَ الإعرابِ في اللُّغةِ المِثاليَّةِ الأدبيَّةِ؛ لُغةِ الشِّعرِ والخَطابةِ في الجاهليَّةِ والإسلامِ، ولَكِنَّه يَستَبعِدُ مُراعاتَها في لَهَجاتِ الحَديثِ بَينَ عَرَبِ الجاهليَّةِ، ويُقيمُ رَأيَه على مُلاحَظَتَينِ فاسِدَتَينِ:
أمَّا إحَدَاهما: فهيَ تَشعُّبُ هذه الضَّوابِطِ الإعرابيَّةِ ودِقَّتُها، إلى دَرَجةٍ يَتَعَذَّرُ تَطبيقُها، وأمَّا الثَّانيةُ: فهيَ تَجرُّدُ جَميعِ اللَّهَجاتِ العاميَّةِ الحَديثةِ المُتَفَرِّعةِ منَ العَرَبيَّةِ من آثارِ الإعرابِ وقَوانينِه.
وهاتانِ المُلاحَظَتانِ اللَّتانِ أورَدَهما فاسِدَتانِ؛ لأنَّ الوقائِعَ والوثائِقَ تُكَذِّبُهما قَديمًا وحَديثًا؛ فليست دِقَّةُ الإعرابِ بمانَعةٍ أحَدًا منَ التَّخاطُبِ بلُغةٍ مُعْرَبةٍ؛ فهذه اللَّاتينيَّةُ في العُصورِ القَديمةِ، والألمانيَّةُ في العَصرِ الحاضِرِ، يَشتَمِلُ كُلٌّ منهما على قَواعِدَ وإعرابٍ، رُبَّما لا يَقِلُّ في دِقَّتِه وتَنَوُّعِه عن قَواعِدِ العَرَبيَّةِ الفُصحى، ومع ذلك لا تَزالُ الألمانيَّةُ لُغةَ تَخاطُبٍ بَينَ الألمانِ، وظَلَّتِ اللَّاتينيَّةُ مُدَّةً طَويلةً لُغةَ تَخاطُبٍ بَينَ الرُّومانِ.
وقد ذَهبَ المُستَشرِقُ فولرز K. Vollers إلى أنَّ القُرآنَ نَزل أوَّلَ الأمرِ بلَهْجةِ مَكةَ المُجَرَّدةِ من ظاهرةِ الإعرابِ، ثُمَّ نَقَّحَه العُلَماءُ على ما ارتَضَوه من قَواعِدَ ومَقاييسَ، حتى أضحى يُقرَأُ بهذا البَيانِ العَذْبِ الصَّافي، وغَدَا في الفَصاحةِ مَضرِبَ الأمثالِ [134] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 144)، ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 237). !
إلَّا أنَّ كِبارَ المُستَشرِقينَ لم يَستَسيغوا هذا الرَّأيَ العَقيمَ؛ فلقد قَيَّضَ اللهُ لكِتابِه مُستَشرِقًا آخَرَ أشهرَ من فولرز، وأكثَرَ منه تَحقيقًا وتَدقيقًا؛ هو نُولْدِكه Noldeke، كفَانا مَؤُونةَ الرَّدِّ على هذا الرَّأيِ الصِّبيانيِّ وسَفَهِه، وفَنَّدَه ونَقَدَه نَقدًا عِلميًّا مَوضوعيًّا، أقامَ فيه الحُجَّةَ على أنَّ أغلَبَ ما تَوهَّمه فولرز تَجَرُّدًا منَ الإعرابِ إنَّما كان صُوَرًا من تَساهُلِ النَّاسِ في القِراءةِ بَعدَ اختِلاطِهم بالأعاجِمِ وشُيوعِ اللَّحْنِ والتَّحريفِ؛ فليس للنَّصِّ القُرآنيِّ صِلةٌ بشَيءٍ من هذا اللحن من قَريبٍ أو من بَعيدٍ [135] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 124، 126)، ((فصول في فقه العربية)) لرمضان عبد التواب (ص: 371- 380). .

انظر أيضا: