موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: أقْسامُ اللَّفِّ والنَّشرِ


يَنْقسِمُ اللَّفُّ والنَّشرُ إلى قِسْمينِ بحسَبِ المُتعدِّدِ المَذْكورِ:
القسْمُ الأوَّلُ: المُتعدِّدُ المُفصَّلُ: وهُو أنْ يُنَصَّ على كلِّ واحِدٍ مِنَ المَذْكوراتِ على حِدةٍ، كما في الآيةِ السَّابِقةِ بأنْ ذكَرَ اللَّيلَ والنَّهارَ تَفْصيلًا. وهُو نَوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: اللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ
وهُو أنْ يكونَ النَّشرُ فيه على تَرتيبِ اللَّفِّ؛ بأن يكونَ الأوَّلُ مِنَ النَّشرِ للأوَّلِ مِنَ اللَّفِّ، والثَّاني للثَّاني، وهكذا.
ومنه قولُه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ؛ فـ(ذكَر ضَميرَ جانِبِ المُتكلِّمِ وجَماعتِه، وجانِبِ المُخاطَبينَ، ثمَّ ذكَر حالَ الهُدى وحالَ الضَّلالِ على تَرتيبِ ذكْرِ الجانبَينِ، فأَوْمأَ إلى أنَّ الأوَّلينَ مُوجَّهون إلى الهُدى، والآخَرِينَ مُوجَّهون إلى الضَّلالِ المُبينِ) [435] ((تفسير ابن عاشور)) (22/ 192). .
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: البسيط
ألستَ أنت الَّذي مِن وَرْدِ وَجْنتِه
ووَرْدِ نِعمَتِه أجْني وأغْتَرِفُ
فذكَر ورْدَ الوَجْنتَينِ، ثمَّ ورْدَ النِّعَمِ، ثمَّ رتَّب النَّشرَ على تَرتيبِ اللَّفِّ، فقال: "أجْني" لتُناسِبَ الوَجْنتينِ، وقال: "أغْتَرفُ" لتُناسِبَ النِّعمةَ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
أفديْهِ مِن رَشَأٍ تَبدَّى واخْتَفى
كالبدْرِ عندَ طُلوعِهِ ومَغيبِهِ
يَجفو ويَعتِبُ مُعرِضًا مُتدلِّلًا
ويَصُدُّ مُعتذِرًا بخَوفِ رَقيبِهِ
فاللَّفُّ والنَّشرُ جاء في كلِّ بيتٍ على حدَةٍ؛ في البيتِ الأوَّلِ قال: "تبدَّى واخْتَفى" ثمَّ قال: "طُلوعِه ومَغيبِه" فطُلوعُ البدْرِ كبُدُوِّ الغَزالِ، ومَغيبُه كاخْتِفائِه، رتَّب في النَّشرِ كما جاء في اللَّفِّ.
وفي البيتِ الثَّاني قال: "يَجْفو ويَعْتِب" ثمَّ أتْبَع فقال: "مُعرِضًا مُتدلِّلًا"، والجَفاءُ يُناسِبُه الإعْراضُ، والعِتابُ لائِقٌ بالتَّدلُّلِ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
فِعْلُ المُدامِ ولونُها ومَذاقُها
في مُقْلتَيه ووَجْنتَيه وطَرْفِهِ
ففِعلُ المُدامِ وهو السُّكْرُ في المُقلتَينِ؛ فالنَّظرُ إلى عَيْنيِ المَحْبوبةِ يَسحَرُ ويُسكِرُ، ولَونُ الخَمْرِ وحُمْرتُه في وجْنَتَيها، ومَذاقُ الخمْرِ في رِيقِها. فوقَع النَّشرُ هنا مُرتَّبًا؛ الأوَّلُ للأوَّلِ، والثَّاني للثَّاني، والثَّالثُ للثَّالثِ.
ومنه بينَ ستَّةٍ وستَّةٍ قولُ الشَّاعِرِ: السريع
الصُّبحُ واللَّيلُ وشَمسُ الضُّحى
والدَّهرُ والدُّرُّ ولِينُ القَضيبْ
في الفَرقِ والطُّرَّةِ والوَجْهِ والـ
خدَّينِ والثَّغرِ وقدِّ الحَبيبْ
فالأوَّلُ مِنَ اللَّفِّ هو الصُّبحُ، وقد جعَله الشَّاعرُ في فَرْقِ شَعرِ المَحْبوبِ، وهُو الأوَّلُ مِنَ النَّشرِ، واللَّيلُ -وهُو ثاني اللَّفِّ- شبَّه به الشَّاعرُ طُرَّةَ شَعرِها، وهُو الثَّاني مِنَ النَّشرِ، وشَمسُ الضُّحى في مُقابِلِ وجْهِها، والدَّهرُ مُقابِلُ الخدَّينِ، والدُّرُّ في صَفاءِ ثغْرِها وجَمالِه وصِغَرِه، ولِينُ القَضيبِ يُضارِعُ ويُحاكي قدَّ (قامَة) الحَبيبِ. فالأوَّلُ مِنَ النّشرِ يُقابِلُ الأوَّلَ مِنَ اللَّفِّ، والثَّاني بالثَّاني، والثَّالثُ بالثَّالثِ، وهكذا.
النَّوعُ الثَّاني: اللَّفُّ والنَّشرُ غيرُ المُرتَّبِ:
وهُو أن يكونَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، كقَولِه تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 106-107] ؛ فذكَر ابْيِضاضَ الوُجوهِ واسْوِدادَها، ثمَّ فصَّل بذكْرِ حالِ الَّذين اسْودَّت وُجوهُهم، ثمَّ حالِ الَّذين ابْيضَّتْ وُجوهُهم.
وقولِ الشَّاعِرِ: الخفيف
كيف أسْلو وأنتَ حِقْفٌ وغُصنٌ
وغَزالٌ لحْظًا وقَدًّا ورِدْفَا
فاللَّحْظُ للغَزالِ، والقَدُّ للغُصنِ، والرِّدْفُ للحِقْفِ [436] الحِقْف: الكثيب من الرمل إذا اعوج وتقوس. ينظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 553)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (4/ 43). ، فجعَل الأوَّلَ مِنَ النَّشرِ للثَّالثِ مِنَ اللَّفِّ، والثَّاني للثَّاني، والثَّالثَ للأوَّلِ، وهُو اللَّفُّ والنَّشرُ المَعْكوسُ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
حكَيتَ الدُّجى والصُّبحَ والغُصنَ والنَّقا
قَوامًا وأرْدافًا وفَرْعًا ورَوْنقَا
وأخْجلْتَ حُسْنًا طَلعةَ البَدْرِ والرَّشَا
ووُرْقَ الحِمى لحْظًا ووَجْهًا ومَنْطِقا
فاللَّفُّ والنَّشرُ في البيتِ الأوَّلِ بينَ اللَّيلِ والصُّبحِ والغُصنِ والنَّقا، في مُقابِلِ القَوامِ والأرْدافِ والفَرْعِ والرَّونَقِ؛ فالقَوامُ للغُصنِ، والأرْدافُ للنَّقَا [437] النَّقَا: كثيبُ الرَّملِ. ينظر: ((العين)) للخليل (5/ 219)، ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) لابن الأنباري (2/ 149). ، والفَرْعُ للدُّجى، والرَّونَقُ للصُّبحِ. فجعَل الأوَّلَ مِنَ النَّشرِ للثَّالثِ مِنَ اللَّفِّ، والثَّانيَ للرَّابعِ، والثَّالثَ للأوَّلِ، والرَّابعَ للثَّاني.
وفي البيتِ الثَّاني كان اللَّفُّ والنَّشرُ بينَ طَلعةِ البدْرِ والرَّشا ووُرْقِ الحِمى، وبينَ اللَّحْظِ والوجْهِ والمَنْطقِ؛ فاللَّحظُ للرَّشَأِ، وهُو الغَزالُ، والوَجْهُ لطَلعةِ البدْرِ، والمَنْطِقُ لوُرْقِ الحِمى؛ فجعَل الأوَّلَ للثَّاني، والثَّانيَ للأوَّلِ، والثَّالثَ للثَّالثِ.
القِسمُ الثَّاني: المُتعدِّدُ المُجمَلُ
وهُو: "أنْ تأتيَ بلفْظٍ واحِدٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ، وتُفوِّضَ إلى العَقْلِ ردَّ كلِّ واحِدٍ إلى ما يَليقُ به مِن غيرِ حاجَةٍ إلى أنْ تَنُصَّ أنت على ذلك".
كقَولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ؛ فالضَّميرُ في "قالوا" يَعودُ على اليَهودِ والنَّصارى، فذُكِرَ الفَريقانِ على وجْهِ الإجْمالِ بالضَّميرِ العائِدِ عليهما، والأصْلُ: قالتِ اليَهودُ: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا مَنْ كان يَهوديًّا، وقالتِ النَّصارى: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا مَنْ كان نَصرانيًّا.
فلفَّ بينَ القَولَينِ إجْمالًا ثِقةً بقُدرةِ السَّامِعِ على أنْ يَرُدَّ إلى كلِّ فَريقٍ قَولَه، وأمْنًا منَ الالْتِباسِ؛ وذلك لعِلْمِه بالتَّعادي بينَ الفَريقَينِ، وتَضليلِ كلِّ واحِدٍ منهما لصاحِبِه، كما قال جلَّ شأنُه بعدَ ذلك: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة: 113] [438] ينظر: ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم المدني (1/341)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 175). .

انظر أيضا: