موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: الاسْتِعارةُ بحسَبِ ذكْرِ المُستعارِ منه أو عدَمِ ذِكْرِه


اصْطَلح البَلاغيُّونَ على أنَّ المُشبَّهَ به في الاسْتِعارةِ يُسمَّى "المُستعارَ منه"، في حين يُطلَقُ على المُشبَّهِ اسمُ "المُسْتعارِ له"، فإذا قُلْتَ: رأيتُ بحْرًا يَسيرُ على الأرْضِ، كان أصْلُ الكَلامِ: رأيتُ رجُلًا كالبحْرِ في سَخائِه وجُودِه؛ فالرَّجلُ هنا هو المُستعارُ له، والبحْرُ هو المُستعارُ منه.
تَنقسِمُ الاسْتعارةُ بحسَبِ ذكْرِ المُستعارِ منه إلى اسْتعارةٍ تَصريحيَّةٍ واسْتعارةٍ مَكنيَّةٍ:
الاسْتِعارةُ التَّصْريحيَّةُ:
هي الَّتي يرِدُ فيها ذِكْرُ المُستعارِ منه صَراحةً، كقَولِه تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ [المائدة: 15-16] ؛ ففي هذه الاسْتعارةِ تَشْبيهٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه نورٌ، وقد صَرَّح بذكْرِ المُستعارِ منه هنا، وكذلك في الآيةِ الثَّانيةِ حيثُ شبَّه الشِّرْكَ بالظُّلُماتِ، والإسلامَ بالنُّورِ، وصرَّح بذكْرِ المُستعارِ منه في المَواضعِ الثَّلاثةِ.
ومنْها قولُ زُهَيرِ بنِ أبي سُلْمى: الطويل
لدى أسَدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ
لهُ لِبَدٌ أظْفارُه لم تُقَلَّمِ
فالأسدُ هنا ليس الحَيوانَ المَعْروفَ، وإنَّما يُريدُ به وصْفَ رجُلٍ (الحُصَينُ بنُ ضَمْضَمٍ)، فاسْتَعار له لفْظَ الأسدِ؛ لاجْتِماعِهما في الشَّجاعةِ والجُرأةِ.
ومنه قولُ المُتَنبِّي في وصْفِ دُخولِ رَسولِ الرُّومِ لسَيفِ الدَّولةِ: الطويل
فأقْبلَ يَمشي في البِساطِ فما دَرى
إلى البَحرِ يَسْعى أم إلى البَدرِ يَرْتقي
ففي كَلمتَيِ "البَحرِ، البَدرِ" اسْتِعارتانِ تَصْريحيَّتانِ؛ حيثُ صوَّر سَيفَ الدَّولةِ بأنَّه بَحرٌ وأنَّه بَدرٌ، ولولا القَريْنةُ "فأقْبَل يَمْشي في البِسَاطِ" لَما علِمْنا أنَّه أرادَ بالبَحرِ والبدْرِ سيْفَ الدَّولةِ، ولَظَنَّنا أنَّه يُريدُ البحْرَ نفْسَه والبدْرَ عَينَه.
وقولُه أيضًا: الطويل
فلم أرَ قبْلِي مَن مَشى البَحرُ نحْوَه
ولا رجُلًا قامَتْ تُعانِقُه الأُسْدُ
فإنَّه شبَّه المَمْدوحَ بالبحْرِ، ولم يذكُرِ المُشبَّهَ وصرَّح بذكْرِ المُستعارِ منه، ثمَّ وصَفه مرَّةً أخرى بأنَّه أسدٌ، وصرَّح بذكْرِ المُستعارِ منه كذلك.
ومِن أرْوعِ أمْثِلةِ الاسْتعارةِ التَّصْريحيَّةِ قولُ الشَّاعِرِ: البسيط
فأمْطَرَتْ لُؤلؤًا مِن نَرجِسٍ وسقَتْ
ورْدًا وعضَّتْ على العُنَّابِ بالبَرَدِ
حيثُ صوَّر الدُّموعَ باللُؤلؤِ، والعُيونَ بالنَّرجِسِ، والخُدودَ بالورْدِ، والأنامِلَ بالعُنَّابِ، والأسْنانَ بالبَرَدِ، وهُو الثَّلجُ.
الاسْتعارةُ المَكنيَّةُ:
وهِي ما حُذِف فيها المُستعارُ منه (المُشبَّهُ به)، ورُمِز إليه بشيءٍ مِن لوازِمِه، كقَولِه تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] ، شبَّه الذُّلَّ بطائِرٍ، بجامِعِ الخُضوعِ واللِّينِ، واسْتُعير الطَّائِرُ للذُّلِّ، ثمَّ حُذِف ورُمِز إليه بشيءٍ مِن لوازِمِه وهُو الجَناحُ- على طَريقِ الاسْتعارةِ بالكِنايةِ.
ومنه قولُ أبي ذُؤَيبٍ الهُذَليِّ: الكامل
وإذا المَنيَّةُ أنْشَبتْ أظْفارَها
ألْفَيتَ كلَّ تَميمَةٍ لا تَنفَعُ
حيثُ شبَّه المنيَّةَ بالأسَدِ الَّذي يُدخِلُ أظْفارَه في فَريسَتِه ويَعلَقُ بها، واعْتاضَ عن ذكْرِ المُستعارِ منه بذكْرِ أحدِ خَصائِصِه، وهِي إنْشابُ الأظْفارِ.
ومنه قولُ دِعْبِلٍ الخُزاعيِّ: الكامل
لا تَعْجبي يا سَلْمَ مِن رجُلٍ
ضَحِك المَشيبُ برأسِه فبَكى
حيثُ صوَّر الشَّاعرُ الشَّيبَ بالإنْسانِ، وحذَف المُشبَّه به وأتى بما يدُلُّ عليه، وهُو الضَّحِكُ.
ومنه قولُ الحَجَّاجِ بنِ يُوسفَ الثَّقَفيِّ في خُطبتِه الَّتي افْتتَح بها حُكْمَه بالكُوفةِ: "إنِّي لَأرى رُؤوسًا قد أيْنعَتْ وحان قِطافُها، وإنِّي لصاحِبُها" حيثُ صوَّر رُؤوسَ النَّاسِ بالثِّمارِ، وحذَف المُستعارَ منه وأتَى بما يدُلُّ عليه، وهو نُضوجُه وحينُ القِطافِ [317] ينظر: ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 270)، ((علم البيان)) لعبد العزيز عتيق (ص: 176). .

انظر أيضا: