الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الخامِسُ: خَصائِصُ إيمانِ الصَّحابةِ في الصِّفاتِ الإلهيَّةِ

لقد عاصَرَ الصَّحابةُ الكِرامُ رَضِيَ اللهُ عنهم نُزولَ الوَحْيِ، وفَهِموا مرادَ رَبِّهم سُبحانَه، ومرادَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أصحابَه أَمَنةٌ لهذه الأُمَّةِ بما يَحمِلونَه مِن سلامةِ المعتَقَدِ، وصِدقِ الاستقامةِ على أمرِ اللهِ تعالى؛ فعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: صَلَّيْنَا المَغْرِبَ مع رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قُلْنَا: لو جَلَسْنَا حتَّى نُصَلِّيَ معهُ العِشَاءَ، قالَ: فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقالَ: ((ما زِلْتُمْ هَاهُنَا؟)) قُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، صَلَّيْنَا معكَ المَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حتَّى نُصَلِّيَ معكَ العِشَاءَ، قالَ: ((أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ)). قالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ، وَكانَ كَثِيرًا ممَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ، فَقالَ: ((النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ ما تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي ما يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتي ما يُوعَدُونَ )) [3409] أخرجه مسلم (2531). .
قال النَّوويُّ: (معنى الحديثِ: أنَّ النُّجومَ ما دامت باقيةً فالسَّماءُ باقيةٌ، فإذا انكَدَرت النُّجومُ وتناثَرَت في القيامةِ، وهَنَت السَّماءُ فانفَطَرت وانشَقَّت وذَهَبت. وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنا أَمَنةٌ لأصحابي فإذا ذهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ)) أي: مِنَ الفِتَنِ والحُروبِ وارتدادِ من ارتَدَّ من الأعرابِ، واختلافِ القُلوبِ، ونحوِ ذلك ممَّا أنذَرَ به صريحًا، وقد وقع كُلُّ ذلك.
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأصحابي أَمَنةٌ لأُمَّتي، فإذا ذَهَب أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعَدونَ)) معناه: من ظُهورِ البِدَعِ والحوادِثِ في الدِّينِ والفِتَنِ فيه، وطُلوعِ قَرنِ الشَّيطانِ، وظُهورِ الرُّومِ وغَيرِهم عليهم، وانتِهاكِ المدينةِ ومكَّةَ وغَيرِ ذلك، وهذه كُلُّها من مُعجزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [3410] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/83). .
وعن يَزيدَ بنِ عُمَيرةَ أنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ قال يَومًا: (إنَّ مِن ورائِكم فِتَنًا يَكثُرُ فيها المالُ، ويُفتَحُ فيها القُرآنُ، حتى يأخُذَه المؤمِنُ والمنافِقُ، والرَّجُلُ والمرأةُ، والصَّغيرُ والكبيرُ، والعَبدُ والحُرُّ، فيُوشِكُ قائِلٌ أن يقولَ: ما للنَّاسِ لا يتَّبِعوني وقد قرأتُ القُرآنَ؟ ما هم بمتَّبِعِيَّ حتى أبتَدِعَ لهم غَيرَه! فإيَّاكم وما ابتُدِعَ؛ فإنَّ ما ابتُدِعَ ضَلالةٌ، وأُحَذِّرُكم زَيغةَ الحكيمِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ قد يقولُ كَلِمةَ الضَّلالةِ على لِسانِ الحَكيمِ، وقد يقولُ المنافِقُ كَلِمةَ الحَقِّ. قال: قلتُ لمعاذٍ: ما يُدريني -رَحِمَك اللهُ- أنَّ الحكيمَ قد يقولُ كَلِمةَ الضَّلالةِ، وأنَّ المنافِقَ قد يقولُ كَلِمةَ الحَقِّ؟ قال: بلى، اجتَنِبْ مِن كلامِ الحَكيمِ المُشتَهِراتِ التي يُقالُ لها: ما هذه؟! ولا يَثْنِينَّك ذلك عنه؛ فإنَّه لعَلَّه أن يُراجِعَ، وتَلَقَّ الحَقَّ إذا سَمِعْتَه؛ فإنَّ على الحَقِ نورًا) [3411] أخرجه أبو داود (4611) واللفظ له، والحاكم (8422)، والبيهقي (21444). صَحَّحه الحاكمُ على شرطِ الشيخينِ، وصَحَّح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4611)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4611). وقال ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (5/101): مشهورٌ. .
لقد كان العَهدُ الذي عاشه الصَّحابةُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُمثِّلُ الكَمالَ في مَسائِلِ العقيدةِ والشَّريعةِ، فلَمَّا ظهَرَت الفِتَنُ والبِدَعُ في أواخِرِ حياتِهم، كانوا هم المرجِعَ الذي رَجَع إليه عُلَماءُ السَّلَفِ في ردِّ البِدَعِ مع استنادِهم إلى نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
وقد أُنزِلَتْ بعضُ آياتِ الصِّفاتِ في خلالِ وقائِعَ وأحداثٍ عاصَرَها الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم، فكان ذلك أدعى لفَهْمِهم مرادَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
كما أنَّ شُموليَّةَ النُّصوصِ القُرآنيَّةِ لمسائِلِ الأسماءِ والصِّفاتِ وعَرْضَها عرضًا موسَّعًا في مُعظَمِ آياتِ اللهِ تعالى: جَعَل الإيمانَ بها وفَهْمَ المرادِ الإلهيِّ منها مسألةً بَدَهِيَّةً، لا تحتاجُ إلى خَوضٍ فيها، أو شَرْحٍ وزيادةِ بيانٍ، وقد أوقَفَ القرآنُ الكريمُ والسُّنَّةُ النَّبَويَّةُ هذا العَرْضَ عند حُدودٍ مُعَيَّنةٍ؛ حيثُ فيها إثباتٌ للصِّفاتِ بمعانيها المعروفةِ لُغةً، ولم يتعَدَّ ذلك إلى الكَشْفِ عن الكيفيَّةِ؛ فالتزم الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم بالمنهَجِ القُرآنيِّ والنَّبَويِّ، ولم يَقَعوا في النَّفيِ والتَّشبيهِ كما وقع فيه غَيرُهم؛ ولذا آمَنَ الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم بأنَّ آياتِ الصِّفاتِ هي من المحكَمِ، وليست من المُتشابِهِ، فتعرَّضوا لتفسيرِ معناها المفهومِ لغةً، ووقَفوا عند ذلك القَدْرِ، ولم يتعَدَّوه إلى الخَوضِ في الكيفيَّةِ والكُنْهِ، أو القَولِ بالنَّفيِ والتعطيلِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (قد عَلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه هذا التوحيدَ، والقُرآنُ مملوءٌ منه، ولم يَقُلْ لهم كَلِمةً واحِدةً تتضمَّنُ نَفْيَ الصِّفاتِ، ولا قال ذلك أحدٌ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأئمَّةِ الدِّينِ، مع العِلمِ الضَّروريِّ بأنَّهم كانوا أعلَمَ بمعاني القُرآنِ مِنَّا، وإن ادَّعى مدَّعٍ تقدُّمَه في الفَلْسفةِ عليهم، فلا يمكِنُه أن يدَّعِيَ تقدُّمَه في معرفةِ ما أُريدَ به القرآنُ عليهم) [3412] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/64). .
وقال أيضًا: (معلومٌ أنَّ عَصْرَ الصَّحابةِ وكِبارِ التَّابعينَ لم يكُنْ فيه مَن يعارِضُ النُّصوصَ بالعَقليَّاتِ؛ فإنَّ الخوارجَ والشِّيعةَ حَدَثوا في آخرِ خِلافةِ عليٍّ، والمُرجِئةَ والقَدَريَّةَ حَدَثوا في أواخِرِ عَصرِ الصَّحابةِ، وهؤلاء كانوا ينتَحِلونَ النُّصوصَ، ويَستَدِلُّونَ بها على قَولِهم، لا يدَّعون أنَّهم عندهم عَقليَّاتٌ تُعارِضُ النُّصوصَ، ولكِنْ لَمَّا حَدَثَت الجَهْميَّةُ في أواخِرِ عَصرِ التَّابعينَ كانوا هم المعارِضينَ للنُّصوصِ برأيِهم، ومع هذا فكانوا قليلينَ مقموعينَ في الأمَّةِ) [3413] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل (5/244). .
ومن خصائِصِ إيمانِ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم أنَّهم لم يتنازَعوا في آياتِ الصِّفاتِ، وقد تنازَعوا في آياتِ الأحكامِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (لم يتنازَعوا في تأويلِ آياتِ الصِّفاتِ وأخبارِها في مَوضِعٍ واحدٍ، بل اتَّفَقَت كَلِمتُهم وكَلِمةُ التَّابعينَ بَعْدَهم على إقرارِها وإمرارِها، مع فَهْمِ معانيها وإثباتِ حقائِقِها، وهذا يدُلُّ على أنَّها أعظَمُ النَّوعَينِ بيانًا، وأنَّ العنايةَ ببيانِها أهَمُّ؛ لأنَّها من تمامِ تحقيقِ الشَّهادتَينِ، وإثباتَها من لوازِم التَّوحيدِ، فبَيَّنها اللهُ ورَسولُه بيانًا شافيًا لا يَقَعُ فيه لَبسٌ ولا إشكالٌ يُوقِعُ الرَّاسِخينَ في العِلمِ في مُنازعةٍ ولا اشتباهٍ، ومَن شَرَح اللهُ لها صَدْرَه ونَوَّرَ لها قَلْبَه يَعلَمُ أنَّ دَلالتَها على معانيها أظهَرُ مِن دلالةِ كثيرٍ مِن آياتِ الأحكامِ على معانيها؛ ولهذا آياتُ الأحكامِ لا يكادُ يَفهَمُ معانيَها إلَّا الخاصَّةُ من النَّاسِ، وأمَّا آياتُ الأسماءِ والصِّفاتِ فيَشتَرِكُ في فَهْمِها الخاصُّ والعامُّ -أعني: فَهْمَ أصلِ المعنى، لا فَهْمَ الكُنْهِ والكَيفيَّةِ) [3414] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) (1/210). ويُنظر: ((العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها)) لعطاء الله المعايطة (ص: 81- 98). .

انظر أيضا: