الْقَبْضُ وَالطَّيُّ
صِفَتاِن فِعليَّتانِ للهِ عزَّ وجلَّ، ثابتتانِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، و(القابضُ) مِن أسماءِ اللهِ تعالى.
الدَّليلُ مِن الكِتابِ:1- قولُه تَعالَى:
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245] .
2- قولُه سُبحانَه:
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] .
الدَّليلُ من السُّنَّةِ: 1- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا:
((يَقبِضُ اللهُ تبارَك وتَعالى الأرضَ يومَ القِيامةِ، ويَطوي السَّماءَ بيَمينِه...))
.
2- حديثُ
أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا:
((... إنَّ اللهَ هو المُسَعِّرُ القابِضُ الباسِطُ الرَّازِقُ، إنِّي لأرجو أن ألقى رَبِّي وليس أَحَدٌ يَطْلُبُني بمَظْلَمةٍ في دَمٍ ولا مالٍ ))
.
قال
الزَّجَّاجُ: (القابِضُ الباسِطُ: الأدَبُ في هذينِ الاسمينِ أن يُذكَرَا معًا؛ لأنَّ تمامَ القُدرةِ بذِكْرِهما معًا؛ ألا ترى أنَّك إذا قُلْتَ إلى فُلانٍ: قَبَض أمري وبَسَطَه، دَلَّا بمجموعِهما أنَّك تريدُ أنَّ جميعَ أمرِك إليه، وتقولُ: ليس إليك من أمري بَسطٌ ولا قَبضٌ، ولا حَلٌّ ولا عَقدٌ؛ أراد: ليس إليك منه شَيءٌ)
.
وقال
الزَّجَّاجيُّ: (أصلُ القَبضِ: ضَمُّ الشَّيءِ المنبَسِطِ مِن أطرافِه، فيَقبِضُه القابِضُ إليه أوَّلًا أوَّلًا حتى يَحوزَه ويَجمَعَه. والبَسْطُ: نَشرُ الشَّيءِ المجتَمِعِ أو المنضَمِّ أو المَطويِّ؛ فمَن قُبِض رِزقُه فقد ضُيِّق عليه، ومن بُسِطَ رِزقُه فقد فُسِحَ له فيه ووُسِّعَ عليهـ)
.
وقال
الخطَّابي: (القابِضُ الباسِطُ: قد يَحسُنُ في مِثلِ هذينِ الاسمينِ أن يُقرَنَ أحَدُهما في الذِّكرِ بالآخَرِ، وأن يُوصَلَ به فيكونَ ذلك أنبَأَ عن القُدرةِ، وأدَلَّ على الحِكمةِ، كقَولِه تعالى:
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245] ، وإذا ذكَرْتَ القابِضَ مُفردًا عن الباسِطِ كنتَ كأنَّك قد قَصَرْتَ بالصِّفةِ على المنعِ والحِرْمانِ.
وإذا أوصَلْتَ أحَدَهما بالآخَرِ فقد جمَعْتَ بيْن الصِّفتَينِ مُنبِئًا عن وَجهِ الحِكمةِ فيهما؛ فالقابِضُ الباسِطُ: هو الذي يُوسِّعُ الرِّزقَ ويُقَتِّرُه، ويَبسُطُه بجُودِه ورحمتِه، ويَقبِضُه بحِكمتِه على النَّظَرِ لعَبدِه، كقَولِه:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى: 27] ، فإذا زاده لم يَزِدْه سَرَفًا وخُرْقًا، وإذا نقَصَه لم يَنقُصْه عَدَمًا ولا بُخلًا. وقيل: القابِضُ هو الذي يَقبِضُ الأرواحَ بالموتِ الذي كتَبَه على العِبادِ)
.
وقال الحليمي: (القابِضُ يطوي بِرَّه ومعروفَه عمَّن يريدُ، ويُضَيِّقُ ويُقَتِّرُ أو يَحرِمُ فيُفقِرُ، ولا ينبغي أن يُدعى رَبُّنا جَلَّ جلالُه باسمِ القابِضِ حتى يقالَ معه الباسِطُ)
.
وقال
أبو يَعلَى الفَرَّاءُ بعدَ ذِكر حديثِ:
((إنَّ اللهَ خَلَقَ آدمَ مِن قَبضةٍ قبَضَها من جميعِ الأرضِ؛ فجاء بنو آدَمَ على قَدْرِ الأرضِ؛ جاء منهم الأحمَرُ والأبيَضُ والأسوَدُ، وبَيْنَ ذلك، والسَّهْلُ والحَزْنُ، والخَبيثُ والطَّيِّبُ ))
: (اعلَمْ أنَّه غيرُ ممتنعٍ إطلاقُ القَبْضِ عليه سُبحانَه، وإضافتُها إلى الصِّفةِ التي هي اليَدُ التي خَلَقَ بها آدَمَ؛ لأنَّه مخلوقٌ باليدِ من هذه القَبضةِ؛ فدلَّ على أنَّها قبضةٌ باليدِ، وفي جوازِ إطلاقِ ذلك أنَّه ليس في ذلِك ما يُحيلُ صِفاتِه، ولا يُخرِجُها عمَّا تستحقُّهـ)
.
وقال
ابنُ القَيِّم: (وردَ لفظُ اليد في القرآنِ والسُّنَّةِ وكلامِ الصحابةِ والتابعين في أكثرَ مِن مِئَةِ مَوضعٍ وُرودًا متنوِّعًا متصرَّفًا فيه، مقرونًا بما يدلُّ على أنَّها يدٌ حقيقيَّةٌ؛ من الإمساكِ والطيِّ، والقَبضِ والبَسطِ...)
.
وقال الغُنيمان: (قَولُه:
((يَقبِضُ اللهُ الأرضَ يومَ القِيامةِ، ويَطوي السَّماءَ بيمينِهـ)): القبضُ: هو أخْذُ الشيءِ باليدِ وجمْعُه، والطيُّ: هو ملاقاةُ الشَّيءِ بعضِه على بعضٍ وجمْعُه، وهو قريبٌ من القبضِ. وهذا مِن صِفاتِ اللهِ تعالى الاختياريَّةِ، التي تتعلَّقُ بمشيئتِه وإرادتِه، وهي ثابتةٌ بآياتٍ كثيرةٍ، وأحاديثَ صحيحةٍ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي ممَّا يجبُ الإيمانُ به؛ لأنَّ ذلك داخلٌ في الإيمانِ باللهِ تعالى، ويحرُم تأويلُها المخرِجُ لمعانيها عن ظاهرِها، وقد دلَّ على ثُبوتِها لله تعالى العقلُ أيضًا؛ فإنَّه لا يُمكنُ لِمَن نفاها إثباتُ أنَّ اللهَ هو الخالقُ لهذا الكونِ المشاهَدِ؛ لأنَّ الفِعلَ لا بدَّ له مِن فاعلٍ، والفاعلَ لا بدَّ له مِن فِعلٍ، وليس هناك فِعلٌ معقولٌ إلَّا ما قام بالفاعِلِ، سَواءٌ كان لازمًا؛ كالنُّزولِ والمجيءِ، أو مُتعدِّيًا؛ كالقَبضِ والطيِّ؛ فحدوثُ ما يُحدِثُه تعالى من المخلوقاتِ تابعٌ لِمَا يفعلُه من أفعالِه الاختياريَّةِ القائمةِ به تعالى، وهو تعالى حيٌّ قيُّومٌ، فعَّال لِمَا يُريدُ، فمَن أنكرَ قيامَ الأفعالِ الاختياريَّةِ به تعالى، فإنَّ معنى ذلك أنَّه يُنكِرُ خَلقَه لهذا العالَم المشاهَدِ وغير المشاهَدِ، ويُنكِرُ قَولَه:
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ فالعَقلُ دلَّ على ما جاءَ به الشَّرعُ.
وما صرَّح به في هذا الحديثِ من القَبضِ والطيِّ قد جاء صريحًا أيضًا في كِتابِ اللهِ تعالى، كما قال تعالى:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبحانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] ، والأحاديثُ والآثارُ عن السَّلَفِ في صريحِ الآيةِ والحديثِ المذكورِ في البابِ: كثيرةٌ وظاهِرةٌ جَليَّةٌ لا تَحتمِلُ تأويلًا، ولا تحتاجُ إلى تفسيرٍ؛ ولهذا صارَ تأويلُها تحريفًا وإلحادًا فيها)
.
وانظُرْ: صِفَتَي: (البَسْط) و(الْإِمْسَاك).