الموسوعة العقدية

المبحثُ السَّابِعُ: من شُروطِ انعِقادِ الإمامةِ: القُرَشِيَّةُ

هذا الشَّرطُ من الشُّروطِ الَّتي ورَدَتِ النُّصوصُ عليه صَريحةً، وانعَقدَ إجْماعُ الصَّحابةِ والتابِعين عليه، وأطبَقَ عليه جَماهيرُ عُلماءِ المُسلِمينَ، ولم يُخالِف في ذلك إلَّا النَّزْرُ اليَسيرُ كالخَوارِجِ وبَعضِ المُعتَزِلةِ وبَعضِ الأشاعِرةِ.
قال البَغْداديُّ: (اختَلَفوا في هذه المَسألةِ: فقال أصحابُنا: إنَّ الشَّرعَ قد ورَدَ بتَخصيصِ قُرَيشٍ بالإمامةِ، ودَلَّتِ الشَّريعةُ على أنَّ قُرَيشًا لا تَخلو مِمَّن يَصلُحُ للإمامةِ؛ فلا يَجوزُ إقامةُ الإمامِ للكافَّةِ من غَيرِهم. وقد نَصَّ الشَّافِعيُّ رَضيَ اللهُ عنه على هذا في بَعضِ كُتُبِه. وكَذلك رواهُ زُرقانُ عن أبي حَنيفةَ) [1333] يُنظر: ((أصول الإيمان)) (ص: 218). .
وقال مالِكٌ: (ولا يَكونُ أيِ الإمامُ إلَّا قُرَشيًّا، وغَيرُه لا حُكمَ لَهُ إلَّا أن يَدعوَ إلى الإمامِ القُرَشِيِّ) [1334] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/153). .
وقال أحمَدُ: (الخِلافةُ في قُرَيشٍ ما بَقيَ مِنَ النَّاسِ اثنانِ، لَيسَ لأحَدٍ من النَّاسِ أن يُنازِعَهم فيها، ولا يَخرُجَ عليهم، ولا نُقِرُّ لغَيرِهم بها إلى قيامِ السَّاعةِ) [1335] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلي (1/26). .
ومن الأدِلَّةِ على ذلك:
1- عن مُعاويةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه أنَّه بَلَغَه أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو يُحدِّثُ أنَّه سيَكونُ مَلِكٌ من قَحْطانَ، فغَضِبَ فقامَ فأثنى على اللهِ بما هو أهلُه ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، فإنَّه بلَغَني أنَّ رِجالًا منكُم يُحَدِّثونَ أحاديثَ لَيسَت في كِتابِ اللهِ، ولا تُؤْثَرُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأولَئِكَ جُهَّالُكم، فإيَّاكُم والأمانيَّ الَّتي تُضِلُّ أهلَها، فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ هذا الأمرَ في قُرَيشٍ، لا يُعاديهم أحَدٌ إلَّا كَبَّه اللَّهُ في النَّارِ على وَجْهِه ما أقاموا الدِّينَ )) [1336] رواه البخاري (3500). .
قال الشِّنقيطيُّ: (اشتِراطُ كونِه قُرَشيًّا هو الحَقُّ، ولَكِنَّ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ دَلَّت على أنَّ ذلك التقديمَ الواجِبَ لَهم في الإمامةِ مَشروطٌ بإقامَتِهمُ الدِّينَ وإطاعَتِهم للهِ ورَسولِه، فإنْ خالَفوا أمرَ اللَّهِ فغَيرُهم مِمَّن يُطيعُ اللَّهَ تعالى ويُنفِّذُ أوامِرَه أَولَى منهم) [1337] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/24). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزالُ هذا الأمرُ في قُرَيشٍ ما بَقيَ منهم اثنانِ)) [1338] رواه البخاري (3501) واللَّفظُ له، ومسلم (1820). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (لَيسَ المُرادُ حَقيقةَ العَدَدِ، وإنَّما المُرادُ به انتِفاءُ أن يَكونَ الأمرُ في غَيرِ قُرَيشٍ) [1339] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/117). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللَّهُ تعالى عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((النَّاسُ تَبَعٌ لقُرَيشٍ في هذا الشَّأنِ، مُسْلِمُهم تَبَعٌ لمُسلِمِهم، وكافِرُهم تَبَعٌ لكافِرِهم )) [1340] رواه البخاري (3495)، ومسلم (1818). .
قال الخَطابيُّ: (مَعنى هذا الحَديثِ: تَفضيلُ قُرَيشٍ على قَبائِلِ العَربِ وتَقديمُها في الإمامةِ والإمارةِ) [1341] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/1577). .
4- عن أنسِ بن مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: قال: كُنَّا في بَيتِ رَجُلٍ من الأنصارِ، فجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى وقَفَ فأخذَ بعِضادَتَيِ البابِ، فقال: ((الأئِمةُ من قُرَيشٍ، ولَهم عليكم حَقٌّ، ولكم مِثلُ ذلك، ما إذا استُرحِموا رَحِموا، وإذا حَكَموا عَدَلوا، وإذا عاهدوا وَفَوا، فمن لم يَفعَلْ ذلك منهم فعليه لَعْنةُ اللَّهِ والمَلائِكةِ والنَّاسِ أجمَعينَ)) [1342] أخرجه أحمد (12900) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5942). صحَّحه العراقي في ((محجة القرب)) (189)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2758)، والوادعي في ((أحاديث معلة)) (40)، وصحَّحه بطرقه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12900)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/474). .
قال ابنُ حَزْمٍ: (نَقولُ بنصِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أنَّ الأئِمةَ من قُرَيشٍ وعلى أنَّ الإمامةَ في قُرَيشٍ، وهذه رِوايةٌ جاءَت مَجيءَ التواتُرِ، ورواها أنسُ بنُ مالِكٍ وعَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ومُعاويةُ، ورَوَى جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ وجابِرُ بنُ سَمُرةَ وعُبادةُ بنُ الصَّامِتِ مَعناها.
ومِمَّا يَدُلُّ على صِحَّةِ ذلك إذْعانُ الأنصارِ رَضيَ اللهُ عنم يَومَ السَّقيفةِ وهم أهلُ الدَّارِ والمَنعةِ والعَدَدِ والسَّابِقةِ في الإسلامِ رَضيَ اللهُ عنهم، ومن المُحالِ أن يَترُكوا اجتِهادَهم لاجتِهادِ غَيرِهم لَولا قيامُ الحُجَّةِ عليهم بنصِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أنَّ الحَقَّ لغَيرِهم في ذلك) [1343] يُنظر: ((الفصل)) (4/74). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (حَديثُ: الأئِمَّةُ مِن قُرَيشٍ... قد جَمَعتُ طُرُقَهُ عن نَحوِ أربَعينَ صَحابيًّا، لَمَّا بلَغَني أنَّ بَعضَ فُضَلاءِ العَصرِ ذَكَرَ أنَّه لم يُرْوَ إلَّا عن أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ) [1344] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/32). .
وقد أجمَعَ أهلُ العِلمِ على ذلك.
1- قال الباقِلانيُّ: (يَدُلُّ على ما قُلناهُ إطباقُ الأمَّةِ في الصَّدرِ الأوَّلِ من المَهاجِرينَ والأنصارِ بَعدَ الاختِلافِ الَّذي شَجَرَ بَينَهم على أنَّ الإمامةَ لا تَصِحُّ إلَّا في قُرَيشٍ) [1345] يُنظر: ((تمهيد الأوائل)) (ص: 471-473). .
2- قال الماوَرديُّ في شُروطِ الإمامةِ: (النَّسَبُ، وهو أن يَكونَ من قُرَيشٍ؛ لوُرودِ النَّصِّ فيه وانعِقادِ الإجْماعِ عليه) [1346] يُنظر: ((الأحكام السلطانية)) (ص: 20).
3- قال الغَزاليُّ: (نَسَبُ قُرَيشٍ لا بُدَّ منه؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الأئِمَّةُ مِن قُرَيشٍ، واعتِبارُ هذا مَأخوذٌ من التوقيفِ ومِن إجماعِ أهلِ الأعصارِ الخاليةِ على أنَّ الإمامةَ لَيسَت إلَّا في هذا النَّسَبِ؛ ولِذلك لم يَتَصَدَّ لطَلَبِ الإمامةِ غَيرُ قُرَشيٍّ في عَصرٍ من الأعصارِ مَعَ شَغفِ النَّاسِ بالاستيلاءِ والاستِعلاءِ وبَذْلِهم غايةَ الجُهدِ والطَّاقةِ في الترَقِّي إلى مَنْصِبِ العُلا؛ ولِذلك لَمَّا همَّ المُخالِفونَ بمِصرَ لطَلَبِ هذا الأمْرِ ادَّعوا أوَّلًا لأنفُسِهم الاعتِزاءَ إلى هذا النَّسَبِ عِلمًا منهم بأنَّ الخَلقَ مُتَطابِقونَ على اعتِقادِهم لانحِصارِ الإمامةِ فيهم) [1347] يُنظر: ((فضائح الباطنية)) (ص: 180). .
4- قال عِياضٌ: (هذه الأحاديثُ -وما في مَعناها في هذا البابِ- حُجَّةٌ أنَّ الخِلافةَ لقُرَيشٍ، وهو مَذهبُ كافَّةِ المُسلِمينَ وجَماعتِهم. وبِهذا احتَجَّ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ على الأنصارِ يَومَ السَّقيفةِ، فلم يَدفَعْهُ أحَدٌ عنه، وقد عَدَّها النَّاسُ في مَسائِلِ الإجْماع؛ إذ لم يُؤْثَرْ عن أحَدٍ من السَّلَفِ فيها خِلافٌ، قَولًا ولا عَمَلًا قَرْنًا بَعدَ قَرنٍ إلَّا ذلك، وإنكارُ ما عَداهُ) [1348] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (6/214). .
5- قال النَّوَويُّ في شَرحِه لحَديثِ: ((النَّاسُ تَبَعٌ لقُرَيشٍ ...)) [1349] أخرجه البخاري (3495)، ومسلم (1818) مطولًا من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. : (هذه الأحاديثُ وأشباهُها دَليلٌ ظاهِرٌ على أنَّ الخِلافةَ مُختَصَّةٌ بقُرَيشٍ، لا يَجوزُ عَقدُها لأحَدٍ من غَيرِهم، وعلى هذا انعَقدَ الإجْماعُ في زَمَنِ الصَّحابةِ، فكَذلك بَعدَهم، ومن خالَفَ فيه من أهلِ البِدَعِ أو عَرَّضَ بخِلافٍ من غَيرِهم فهو مَحجوجٌ بإجْماعِ الصَّحابةِ والتابِعِين فمَن بَعدَهم بالأحاديثِ الصَّحيحةِ) [1350] يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/200). .
6- قال ابنُ خلدون: (وأمَّا النَّسَبُ القُرَشيُّ فلِإجْماعِ الصَّحابةِ يَومَ السَّقيفةِ على ذلك، واحتَجَّتْ قُرَيشٌ على الأنصارِ لَمَّا هَمُّوا يومَئِذٍ ببَيعةِ سَعدِ بنِ عُبادةَ، وقالوا «مِنَّا أميرٌ ومنكُم أميرٌ» بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الأئِمةُ من قُرَيشٍ)) وبِأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصانا بأن نُحْسِنَ إلى مُحْسِنِكُم ونَتَجاوَزَ عن مُسِيئِكُم، ولَو كانتِ الإمارةُ فيكُم لم تَكُنِ الوِصيَّةُ بكم، فحَجُّوا الأنصارَ ورَجَعوا عن قَولِهم «مِنَّا أميرٌ ومنكُم أميرٌ» وعَدَلوا عَمَّا كانوا همُّوا به من بَيعةِ سَعدٍ لذلك، وثَبَتَ أيضًا في الصَّحيحِ: ((لا يَزالُ هذا الأمرُ في هذا الحَيِّ من قُرَيشٍ)) [1351] أخرجه البخاري (6830) من حديث عبدالله بن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما بلفظ: ((..ولن يُعرَفَ هذا الأمرُ إلَّا لهذا الحيِّ من قُرَيشٍ..)). وأمثالُ هذه الأدِلَّةِ كَثيرةٌ) [1352] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/242). .
7- قال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (أمَّا الإجْماعُ على اشتِراطِ القُرَشيَّةِ فقد ثَبَتَ بالنَّقلِ والفِعلِ، رواهُ ثِقاتُ المُحَدِّثينَ، واستَدَلَّ به المُتَكَلِّمونَ وفُقَهاءُ مَذاهِبِ السُّنَّةِ كُلُّهم، وجَرَى عليه العَمَلُ بتَسليمِ الأنصارِ وإذعانِهم لبَني قُرَيشٍ، ثُمَّ إذعانِ السَّوادِ الأعظَمِ من الأمَّةِ عِدَّةَ قُرونٍ) [1353] يُنظر: ((الخلافة)) (ص: 27). .

انظر أيضا: