المبحثُ الرَّابِعُ: من شُروطِ انعِقادِ الإمامةِ: الحُرِّيَّةُ
فالمَملوكُ لا يَحِقُّ لَهُ التصَرُّفُ في شَيءٍ إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه، فلا وِلايةَ لَهُ على نَفسِه، فكَيفَ تَكونُ لَهُ الوِلايةُ على غَيرِه؟!
قال
الغَزاليُّ: (لا تَنعَقِدُ الإمامةُ لرَقيقٍ؛ فإنَّ مَنصِبَ الإمامةِ يَستَدعي استِغراقَ الأوقاتِ في مُهمَّاتِ الخَلقِ، فكَيفَ يُنتَدَبُ لَها من هو كالمَفقودِ في حَقِّ نَفسِه المَوجودِ لمالِكٍ يَتَصَرَّفُ تَحتَ تَدبيرِه وتَسخيرِه؟! كيفَ وفي اشتِراطِ نَسَبِ قُرَيشٍ ما يَتَضَمَّنُ هذا الشَّرطَ؛ إذ لَيسَ يُتَصَوَّرَ الرِّقُّ في نَسَبِ قُرَيشٍ بحالٍ من الأحوالِ؟!)
.
قال المهَلَّبُ: (أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّه لا يَجوزُ أن تَكونَ الإمامةُ في العَبيدِ)
.
وقال
الشِّنقيطيُّ: (من شُروطِ الإمامِ الأعظَمِ كونُه حُرًّا، فلا يَجوزُ أن يَكونَ عَبدًا، ولا خِلافَ في هذا بَينَ العُلماءِ)
.
فإنْ قيلَ: قد ورَدَ في الحَديثِ الصَّحيحِ ما يَدُلُّ على إمامةِ العَبدِ؛ فعن
أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اسمَعوا وأطيعوا وإنِ استُعمِلَ عليكم عَبدٌ حَبشيٌّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبةٌ ))
.
فالجوابُ على ذلك من أوجُهٍ
:الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه قد يُضرَبُ المَثَلُ بما لا يَقَعُ في الوُجودِ عادةً، فإطلاقُ العَبدِ الحَبشيِّ لأجلِ المُبالَغةِ في الأمرِ بالطَّاعةِ، وإن كان لا يُتَصَوَّرُ شَرعًا أن يَليَ ذلك.
قال
الخطَّابيُّ: (قَولُه: وإنْ عَبدًا حَبشيًّا، يُريدُ به طاعةَ من ولاهُ الإمامُ عليكم وإن كان عَبدًا حَبشيًّا، وقد ثَبَتَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: الأئِمةُ من قُرَيشٍ
، وقد يُضرَبُ المَثَلُ في الشَّيءِ بما لا يَكادُ يَصِحُّ منه الوُجودُ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "من بنى للهِ مَسْجِدًا ولَو مِثلَ مَفْحَصِ قَطاةٍ
بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ"
، وقَدْرُ مَفْحَصِ قَطاةٍ لا يَكونُ مَسجِدًا لشَخصٍ آدَميٍّ، وكَقَولِه: لَو سَرَقَت
فاطِمةُ لقَطعْتُها
وهيَ رِضوانُ اللهِ عليها وسَلامُه لا يُتَوَهَّمُ عليها السَّرِقةُ، وقال: لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسرِقُ البَيضةَ فتُقطَعُ يَدُه
ونظائِرُ هذا في الكلام ِكثيرٌ)
.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المُرادَ باستِعمالِ العَبدِ الحَبشيِّ أن يَكونَ مَأمورًا من جِهةِ الإمامِ الأعظَمِ على بَعضِ البِلادِ.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قيلَ: المُرادُ أنَّ الإمامَ الأعظَمَ إذا استَعمَلَ العَبدَ الحَبشيَّ على إمارةِ بَلَدٍ مَثَلًا وجَبَت طاعَتُه، ولَيسَ فيه أنَّ العَبدَ الحَبشيَّ يَكونُ هو الإمامَ الأعظَمَ)
.
وقال
الشِّنقيطي عن هذا الوَجهِ: (هو أظهَرُها)
.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أن يَكونَ إطلاقُ اسمِ العَبدِ عليه لاتِّصافِه بذلك سابِقًا مَعَ أنَّه وقتَ التَّوليةِ حُرٌّ.
قال
الشِّنقيطيُّ: (نَظيرُه إطلاقُ اليُتمِ على البالِغِ باعتِبارِ اتِّصافِه به سابِقًا في قَولِه تعالى:
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الآية)
.
الوَجهُ الرَّابِعُ: أنَّ المُرادَ بذلك المُتَغَلِّبُ لا المُختارُ، ففي هذه الحالةِ تَجِبُ طاعَتُه وإن كان عَبدًا حَبشيًّا، ولا يَجوزُ الخُروجُ عليه لمُجَرَّدِ عُبوديَّتِه، ويُؤَيِّدُ هذا الرَّأيَ لَفظُ:
((إن تَأمَّرَ عليكم...)) فلَفظَ
((تَأمَّر)) يَدُلُّ على أنَّه تَسَلَّطَ على الإمارةِ بنَفسِه، ولم يُؤمَّرْ من قِبَلِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (لَو تَغلَّبَ عَبدٌ حَقيقةً بطَريقِ الشَّوكةِ فإنَّ طاعَتَهُ تَجِبُ إخمادًا للفِتنةِ ما لم يَأمُرْ بمَعصيةٍ)
.