المَبحَثُ الأوَّلُ: اشتِقاق لَفظِ الجَلالةِ (اللهِ)
اختَلَف أهْلُ العِلْمِ في اسمِ اللهِ سُبحانَه: هل هو مُشْتَقٌّ أو لا؟ على قولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّه اسمٌ عَلَمٌ خاصٌّ لله تعالى، لا اشتِقاقَ له، والألِفُ واللَّامُ فيه لازِمةٌ لا للتَّعريفِ، وقد ذهب إلى هذا جماعةٌ مِن أئمَّةِ اللُّغةِ والفِقْهِ؛ فنُسِبَ هذا القَولُ إلى الخليلِ و
سِيبويهِ، و
محمَّدِ بنِ الحَسَنِ، و
الشَّافعيِّ، وهو قَولُ المازنيِّ، وابنِ كَيسانَ، و
الزَّجَّاجِ، و
الأشْعريِّ، و
القَفَّالِ الشَّاشيِّ، و
الخطَّابيِّ، و
إمامِ الحَرَمينِ، و
الغزاليِّ، و
الفَخرِ الرَّازيِّ، وأكثَرِ الأصوليِّينَ
.
قال
ابنُ مالكٍ: (من الأعلامِ التي قارَنَ وَضْعَها وجودُ الألِفِ واللَّامِ: اللهُ تعالى المنفَرِدُ به، وليس أصلُه الإلهُ، كما زعم الأكثرونَ، بل هو عَلَمٌ دالٌّ على الإلهِ الحَقِّ دَلالًة جامِعةً لمعنى الأسماءِ الحُسنى كُلِّها، ما عُلِمَ منها وما لم يُعلَمْ؛ ولذلك يُقالُ: كُلُّ اسمٍ سِوى اللهِ مِنَ الأسماءِ الكريمةِ هو من أسماءِ اللهِ، ولا يَنعَكِسُ، ولو لم يُرَدَّ على من زَعَم أنَّ أصلَ اللهِ الإلهُ إلَّا بكوِنه مُدَّعِيًا ما لا دليلَ عليه، لكان ذلك كافيًا؛ لأنَّ اللهَ والإلهَ مختَلِفانِ في اللَّفظِ والمعنى)
.
وقال الخازِنُ: (اللهُ هو اسمٌ عَلَمٌ خاصٌّ لله تعالى، تفَرَّد به الباري سُبحانَه وتعالى، ليس بمُشْتَقٍّ، ولا يَشْرَكُه فيه أحَدٌ، وهو الصَّحيحُ المختارُ؛ دليلُه قَولُه تعالى:
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] يعني: لا يُقالُ لغيرِه: اللهُ)
.
وقال
أبو حيَّانَ: (اللهُ عَلَمٌ لا يُطلَقُ إلَّا على المعبودِ بحَقٍّ، مُرتَجَلٌ غيرُ مُشْتَقٍّ عندَ الأكثَرينَ)
.
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (جماهيرُ أهلِ الأرضِ يَعرِفونَ أنَّ اللهَ اسمٌ لِذاتِ الخالِقِ فاطِرِ السَّمَواتِ والأرضِ، ولا يَعرِفونَ تصريفَ الاسمِ واشتِقاقَهـ)
.
القَول الثَّاني: أنه مُشْتَقٌّ، وهو القَولُ المشهورُ عندَ كثيرٍ مِنَ النُّحاةِ والمفَسِّرينَ، ونُسِبَ أيضًا إلى
سِيبويهِ، ثمَّ اختَلَفوا في اشتِقاقِه، فقيل: من أَلَهَ إِلَاهَةً، أي: عبَدَ عبادةً، وقيل: أصلُه إِلَهٌ، قال
المبَرِّدُ: هو قَولُ العَرَبِ: أَلَهْتُ إلى فلانٍ، أي: سكَنْتُ إليه، فكأنَّ الخَلقَ يَسكُنونَ إليه ويَطمَئِنُّونَ بذِكْرِه، وقيل: أصلُ الإلهِ وِلَاهٌ، فأُبدِلَت الواوُ بالهمزةِ، مِثلُ: وِشَاحٍ وَإِشَاحٍ، اشتِقاقُه من الْوَلَهِ؛ لأنَّ العبادَ يَولَهونَ إليه، أي: يَفزَعونَ إليه في الشَّدائِدِ ويَلْجَؤونَ إليه في الحوائِجِ، كما يُولَهُ كُلُّ طفلٍ إلى أمِّه، وقيل: هو من الْوَلَهِ: وهو ذَهابُ العَقلِ؛ لفَقْدِ مَن يَعِزُّ عليك
.
قال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (اختَلَفوا في كونِه مُشْتَقًّا أو لا؛ ذَهَب الخَليلُ و
سِيبويهِ وجماعةٌ من أئمَّةِ اللُّغةِ و
الشَّافعيُّ والخَطَّابيُّ وإمامُ الحرَمَينِ ومَن وافَقَهم إلى عَدَمِ اشتِقاقِه؛ لأنَّ الألِفَ واللَّامَ فيه لازِمةٌ، فتَقولُ: يا اللهُ، ولا تقولُ: يا الرَّحمنُ؛ فلولا أنَّه من أصلِ الكَلِمةِ لَمَا جاز إدخالُ حَرفِ النِّداءِ على الألِفِ واللَّامِ، وقال آخَرونَ: إنَّه مُشْتَقٌّ. واختَلَفوا في اشتِقاقِه إلى أقوالٍ؛ أَقواها: أنَّه مُشْتَقٌّ من أَلَهَ يَألَهُ إِلَاهَةً، فأصلُ الاسمِ: الإِلَهُ، فحُذِفَت الهَمزةُ، وأُدغِمَت اللَّامُ الأُولى في الثَّانيةِ وُجوبًا، فقيل: اللهُ، ومِن أقوى الأدِلَّةِ عليه قَولُه تعالى:
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] مع قَولِه عزَّ وجَلَّ:
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] ، ومعناه ذو الأُلوهيَّةِ التي لا تنبغي إلَّا له، ومعنى أَلَهَ يَألَهُ إِلَهَةً: عَبَد يَعبُد عِبادةً، فاللهُ المألوهُ، أي: المعبودُ)
.
وقال محمَّد خليل هرَّاس: (اسمُ الجلالةِ؛ قيل: إنَّه اسمٌ جامِدٌ غيرُ مُشْتَقٍّ؛ لأنَّ الاشتِقاقَ يَستلزِمُ مادَّةً يُشْتَقُّ منها، واسمُه تعالى قديمٌ، والقديمُ لا مادَّةَ له، فهو كسائِرِ الأعلامِ المَحْضَةِ التي لا تتضمَّن صِفاتٍ تقومُ بمسمَّياتِها. والصَّحيحُ أنَّه مُشْتَقٌّ، واختُلِفَ في مبدأِ اشتِقاقِه، فقيل: من أَلَهَ يَألَهُ أُلوهَةً وإِلهَةً وأُلوهيَّةً، بمعنى: عبدَ عِبَادةً.
وقيل: من أَلِهَ -بكَسرِ اللَّامِ- يَألَهُ -بفَتحِها- أَلَهًا: إذا تحيَّرَ. والصَّحيحُ الأوَّلُ، فهو إلهٌ بمعنى مألوهٍ، أي: معبود... وعلى القَولِ بالاشتِقاقِ يكونُ وَصفًا في الأصلِ، ولكِنْ غَلَبَتْ عليه العَلَمِيَّةُ، فتجري عليه بقيَّةُ الأسماءِ أخبارًا وأوصافًا؛ يُقالُ: اللهُ رحمنٌ رحيمٌ، سميعٌ عليمٌ، كما يُقالُ: اللهُ الرَّحمنُ الرَّحيمُ… إلخ)
.