الموسوعة العقدية

المبحثُ التَّاسِعُ: مِن أوجُهِ زيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه: أنَّ التفاضُلَ يحصُلُ من جهةِ الأسبابِ المُقتَضيةِ لها

من كان مُستَنِدًا في تصديقِه ومحبَّتِه على أدِلَّةٍ تُوجِبُ اليقينَ ولا تَدَعُ مجالًا للشُّبَهِ العارضةِ، بل تدحَضُها وتُبَيِّنُ فسادَها: ليس بمنزلةِ من كان تصديقُه لأسبابٍ دون ذلك، كالمقَلِّدِ؛ فإنَّ تصديقَه قد يتزعزَعُ ويداخِلُه الشَّكُّ والرَّيبُ لضَعفِ أسبابِ التصديقِ عنده، وكذلك من كانت له علومٌ ضروريَّةٌ قَوِيَ تمكُّنُها في نَفْسِه، بحيث لا يمكِنُه دَفْعُها عن نَفْسِه؛ ليس بمنزلةِ من تُعارِضُه الشُّبَهُ، فهو يَطلُبُ إزالتَها بالنَّظَرِ والبَحثِ، وقد لا يستطيعُ دَفْعَها عن نَفْسِه، ولا يَصِلُ إلى اليقينِ في اعتقادِه.
ولا يستريبُ عاقِلٌ أنَّ العِلمَ بكثرةِ الأدِلَّةِ وقُوَّتِها، وبفسادِ الشُّبَهِ المعارضةِ لذلك وبطلانِها: ليس كالعِلمِ الذي هو مُستَنِدٌ على دليلٍ واحدٍ أو دليلينِ مِن غيرِ مَعرِفةٍ بالشُّبَهِ المعارِضةِ له، وفَسادِها.
فالشَّيءُ كُلَّما قَوِيَت أسبابُه وتعَدَّدَت، وانقَطَعَت موانِعُه واضمَحَلَّت؛ كان أوجَبَ لكمالِه وقُوَّتِه وتمامِه، والعكسُ بالعَكسِ [404] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/565). .
 قال ابنُ عُثَيمين: (العقيدةُ تزيدُ وتَنقُصُ بلا شَكٍّ، والدَّليلُ على ذلك عَقليٌّ وشَرعيٌّ؛ أمَّا الدليلُ العَقليُّ: فلأنَّ الاعتقادَ مبنيٌّ على العِلمِ، والعِلمُ مبنيٌّ على طُرُقِ العِلمِ، وطُرُقُ العِلمِ تختَلِفُ، فلزم من ذلك أن يزيدَ الاعتقادُ وينقُصَ باعتبارِ طُرُقِه، وهذا دليلٌ عقليٌّ على أنَّ الاعتقادَ يزيدُ ويَنقُصُ.
ونَضرِبُ مَثَلًا محسوسًا لهذا: فأنت إذا أخبرك رجلٌ ثِقةٌ بخبرٍ اعتقَدْتَ مخبرَه، فإذا جاءك ثانٍ وأخبرك بنفسِ الخبرِ زاد اعتقادُك، فإذا أخبرك ثالثٌ فرابعٌ زاد أكثَرَ، فإذا شاهَدْتَ ذلك بنَفْسِك فإنَّ اعتقادَك يزيدُ أكثَرَ وأكثَرَ؛ ولهذا قال المحَدِّثون: «إنَّ المتواتِرَ يفيدُ العِلمَ اليقينيَّ أو الضَّروريَّ» على خلافٍ في هذا.
أمَّا الدَّليلُ الشَّرعيُّ على أنَّ الاعتقادَ يزيدُ ويَنقُصُ، فمنه قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] ، وعلى هذا فالاعتقادُ يزيدُ ويَنقُصُ بدليلينِ؛ أحَدُهما: أَثَريٌّ، والثَّاني: نَظَريٌّ، وإن شِئتَ فقُل: أحدُهما: سمعيٌّ، والثَّاني: عَقليٌّ.
فالاعتقادُ يزيدُ ويَنقُصُ، وأنت بنَفْسِك تُحِسُّ بذلك؛ فأحيانًا يكونُ عندك حضورُ ذِهنٍ وصَفاءُ نَفسٍ، فتتعَبَّدُ لله وكأنَّك تشاهِدُ الجنَّةَ والنَّارَ، وأحيانًا تستولي عليك الغَفلةُ، فلا يحصُلُ عندك هذا الاعتِقادُ؛ ولهذا لَمَّا سأل الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((يا رَسولَ اللهِ إذا كُنَّا عندك وذكَرْتَ الجنَّةَ والنَّارَ، فكأنَّما نشاهِدُها رأيَ عَينٍ، فإذا ذهَبْنا إلى أهلِينا وعافَسْنا الأولادَ والنِّساءَ - يعني غفلنا، قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((يا حَنْظَلةُ، ساعةٌ وساعةٌ)) ، وهذا أمرٌ مشاهَدٌ.
والقَولُ -وهو من الإيمانِ- أيضًا يَزيدُ ويَنقُصُ؛ فالذي يذكُرُ اللهَ عَشْرَ مَرَّاتٍ ليس كمن يذكُرُه خمسَ مَرَّاتٍ؛ فالذي يذكُرُه سُبحانَه عشرًا ذَكَره أكثَرَ، إذَن القَولُ يَزيدُ ويَنقُصُ، وإذا زاد القَولُ زاد الإيمانُ.
وزيادةُ القَولِ تكون تارةً بالكميَّةِ، وتارةً بالكيفيَّةِ، وتارةً بهما جميعًا؛ فالإنسانُ إذا قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، موقِنًا بها قَلْبُه تمامًا، ملتَزِمًا لمقتضياتِها، فهو أزيدُ ممَّن قالها مع الغَفلةِ، والإنسانُ الذي يقولُ عَشْرَ مَرَّاتٍ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، أزيَدُ مِن الذي يقولُ خَمسَ مرَّاتٍ، فزيادةُ القَولِ تكونُ بالكَمِّيَّةِ والكيفيَّةِ.
وعلى هذا فإذا زاد القَولُ -وقلنا: إنَّه من الإيمانِ- لزم زيادةُ الإيمانِ، وإذا نَقَص القولُ نَقَص الإيمانُ؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للنِّساءِ: ((ما رأيتُ من ناقِصاتِ عَقلٍ ودِينٍ أذهَبَ للُبِّ الرَّجُلِ الحازمِ مِن إحداكُنَّ! قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ما نُقصانُ دينِها؟ قال: أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟)). والصِّيامُ والصَّلاةُ عَمَلٌ، فجعل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَقْصَه من الحائِضِ نقصًا في الدِّينِ، إذَن هنا نَقَص الإيمانُ بنَقْصِ العَمَلِ.
وكذلك العَمَلُ يَزيدُ ويَنقُصُ، والزيادةُ في العَمَلِ تكونُ كميَّةً وكيفيَّةً ونَوعًا.
ففي النَّوعِ: فإنَّ الواجِبَ أفضَلُ من التطَوُّعِ؛ لقولِ اللهِ تعالى في الحديثِ القُدسيِّ: ((وما تقَرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مما افترَضْتُه عليه))، فالصَّلاةُ في جِنْسِها أفضَلُ من الصَّدَقةِ، وكذلك الأضحِيَّةُ في وَقتِها أفضَلُ من الصَّدَقةِ، وهذا في النَّوعِ.
وفي الكَمِّيَّةِ: فإنَّ من صَلَّى عَشْرَ ركَعاتٍ إيمانُه أزيَدُ ممَّن صلَّى ركعتينِ.
وفي الكيفيَّةِ: فإنَّ من صَلَّى صلاةً يَطمَئِنُّ فيها بخُشوعٍ وتأنٍّ وتدَبُّرٍ لِما يقولُ، ليس كمن صَلَّى صلاةً على غيرِ هذا الوَجهِ.
قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] ، وزيادةُ الإيمانِ في الآيةِ تَشمَلُ زيادةَ القَولِ والعَمَلِ والاعتقادِ؛ فيزدادون إيمانًا، ويزدادون عَمَلًا إذا كانت الآيةُ فيها أمرٌ بأعمالٍ، أو قولًا إذا كان فيها أمرٌ بأقوالٍ) [405] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) (ص: 403-406). .

انظر أيضا: