الموسوعة العقدية

الفرعُ الرابعُ: من أقوالِ أهلِ العِلمِ حَولَ شفاعةِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

1- قال أبو حَنيفةَ: (شفاعةُ نَبَيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَقٌّ لكُلِّ من هو من أهلِ الجَنةِ، وإن كان صاحِبَ الكَبيرةِ) [3396] يُنظر: ((شرح وصية الإمام أبي حنيفة)) للبابرتي (ص: 145). .
2- قال أحمَدُ بنُ حَنبلٍ: (الإيمانُ بشفاعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبِقومٍ يَخرُجونَ من النَّارِ بَعدَما احتَرَقوا وصاروا فَحمًا، فيُؤمَرُ بهم إلى نَهرٍ على بابِ الجَنةِ -كما جاءَ الأثَرُ- كيفَ شاءَ وكَما شاءَ: إنَّما هو الإيمانُ به والتَّصديقُ به) [3397] يُنظر: ((أصول السنة)) (ص: 32). .
3- قال ابنُ خُزَيمةَ: (بابُ ذِكرِ الشَّفاعةِ التي خَصَّ اللهُ بها النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دونَ غَيرِه من الأنبياءِ صَلَواتُ الله عليهم ودونَ سائِرِ المُؤمِنينَ، وهيَ الشَّفاعةُ الأولى التي يَشفَعُ بها لأمَّتِه، ليُخَلِّصَهمُ اللهُ من المَوقِفِ الذي قد جُمِعوا فيه يَومَ القيامةِ... وقد دَنتِ الشَّمسُ منهم، فآذَتْهم وأصابَهم من الغَمِّ والكَربِ ما لا يُطيقونَ، ولا يَحتَمِلونَ، وهذه الشَّفاعةُ هيَ سِوى الشَّفاعةِ التي يَشفَعُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدُ لإخراجِ مَن قد أُدخِلَ النَّارَ من أمَّتِه، بما قَدِ ارتَكَبوا من الذُّنوبِ والخَطايا في الدُّنيا، التي لَم يَشَأِ اللهُ أن يَعفوَ عنها ويَغفِرَها لهم؛ تَفَضُّلًا وكَرمًا وجُودًا) [3398] يُنظر: ((التوحيد)) (2/ 474). .
4- قال أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (أجمَعوا على أنَّ شفاعةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأهلِ الكَبائِرِ من أمَّتِه، وعلى أنَّه يُخرِجُ من النَّارِ قَومًا من أمَّتِه بَعدَ ما صاروا حُمَمًا، فيُطرَحونَ في نَهرِ الحَياةِ، فيَنبُتونَ كما تنبُتُ الحِبَّةُ في حَميلِ السَّيلِ) [3399] يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 164). .
5- قال البَربَهاريُّ: (الإيمانُ بشفاعةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُذنِبينَ الخاطِئينَ في يَومِ القيامةِ، وعلى الصِّراطِ، ويُخرِجُهم من جَوفِ جَهَنَّمَ، وما من نَبيٍّ إلَّا له شفاعةٌ، وكَذلك الصِّدِّيقونُ والشُّهداءُ والصَّالِحونُ) [3400] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 45). .
6- قال أبو سُلَيمانَ الخَطابي في شَرحِ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُعطيتُ الشَّفاعةَ)) [3401] أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) مطولًا من حديثِ جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما. : (فإنَّها هيَ الفَضيلةُ العُظمى التي لَم يُشارِكْه فيها أحَدٌ من الأنبياءِ، وبِها سادَ الخَلقَ كُلَّهم، حَتَّى يَقولَ: ((أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَم))، وذلك في القيامةِ حينَ يَشفَعُ للخَلقِ في الحِسابِ، ولا يَشفَعُ غَيرُه) [3402] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (1/ 335). .
7- قال أبو عَمْرو الدَّاني: (مِن قَولِهم أي أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ اللهَ يُشَفِّعُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأهلَ بيتِه وصَحابَتَه، ومَن يَشاءُ من صالِحِ عِبادِه، في عُصاةِ أهلِ مِلَّتِه، ويُخرِجُ بشفاعةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من النَّارِ قومٌ بَعدَ ما امتُحِشوا فيها وصاروا حُمَمًا، ويَدخُلونَ الجَنَّةَ ويُغسَلونَ في ماءِ الحَياةِ، فتَنبُتُ لُحومُهم كما تَنبُتُ الحِبَّةُ في حَميلِ السَّيلِ، على ما أتَت به الأخبارُ الصِّحاحُ عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [3403] يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 209-211). .
8- قال أبو عُثمانَ الصَّابونيُّ: (يُؤمِنُ أهلُ الدِّينِ والسُّنَّةِ بشفاعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُذنِبي التَّوحيدِ، ومُرتَكِبي الكَبائِرِ، كما ورَدَ به الخَبَرُ الصَّحيحُ عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [3404] يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 258). .
9- قال عَبدُ الغَنيِّ المَقدِسيِّ: (يَعتَقِدُ أهلُ السُّنَّةِ ويُؤمِنونَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَشفَعُ يَومَ القيامةِ لأهلِ الجَمعِ كُلِّهم شفاعةً عامَّةً، ويَشفَعُ في المُذنِبينَ من أمَّتِه فيُخرِجُهم من النَّارِ بَعدَما احتَرَقوا) [3405] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 164-167). .
10- قال ابنُ قُدامةَ: (يَشفَعُ نَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيمَن دَخلَ النَّارَ من أمَّتِه من أهلِ الكَبائِرِ، فيَخرُجونَ بشفاعتِه بَعدَما احتَرَقوا وصاروا فحمًا وحُممًا، فيَدخُلونَ الجَنَّةَ بشفاعتِه، ولِسائِرِ الأنبياءِ والمُؤمِنينَ والمَلائَكةِ شفاعاتٌ) [3406]يُنظر: ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 33). .
11- قال القُرطُبيُّ: (هذه الشَّفاعةُ العامَّةُ لأهلِ المَوقِفِ إنَّما هيَ ليُعَجَّلَ حِسابُهم ويُراحوا من هولِ المَوقِفِ، وهيَ الخاصَّةُ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [3407] يُنظر: ((التذكرة)) (1/ 280-282). .
12- قال ابنُ تَيميَّةَ: (لَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القيامةِ ثَلاثُ شفاعاتٍ:
أمَّا الشَّفاعةُ الأولى: فيُشفَّعُ في أهلِ المَوقِفِ حَتَّى يُقضى بينَهم بَعدَ أن تَتَراجَعَ الأنبياءُ: آدَمُ ونوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى ابنُ مَريَم عن الشَّفاعةِ حَتَّى تَنتَهيَ إليه.
وأمَّا الشَّفاعةُ الثَّانيةُ: فيُشفَّعُ في أهلِ الجَنةِ أن يَدخُلوا الجَنَّةَ، وهاتانِ الشَّفاعتانِ خاصَّتانِ له.
وأمَّا الشَّفاعةُ الثَّالِثةُ: فيُشفَّعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ، وهذه الشَّفاعةُ له ولِسائِرِ النَّبيِّينِ والصِّدِّيقينَ وغَيرِهم، فيُشفَّعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ ألَّا يَدخُلَها، ويُشفَّعُ فيمَن دَخلَها أن يَخرُجَ منها) [3408] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) (ص: 100). .
وقال أيضًا: (وكَذلك شفاعتُه للمُؤمِنينَ يَومَ القيامةِ في زيادةِ الثَّوابِ ورَفعِ الدَّرَجاتِ مُتَّفَقٌ عليها بينَ المُسلِمينَ... وأمَّا شفاعتُه لأهلِ الذُّنوبِ من أمَّتِه فمُتَّفَقٌ عليها بينَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ وسائِرِ أئِمَّةِ المُسلِمينَ الأربَعةِ وغَيرِهم) [3409] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 148). .
وقال الذَّهَبيُّ: (إنَّ غَيرَ الكُفَّارِ تَنفَعُهم شفاعةُ الشَّافِعينَ، فشفاعاتُ نَبَيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبعةٌ:
فأوَّلُها: شفاعتُه الكُبرى العامَّةُ في الخَلائِقِ، الخاصَّةُ به حينَ يَرغَبُ الخَلقُ إليه، فيَشفَعُ في أهلِ المَوقِفِ ليُقضى بينَهم، وذلك هو المَقامُ المَحمودُ الذي يَغبِطُه به الأولونُ والآخِرونَ.
الثَّانيةُ: شفاعتُه إذ يَسجُدُ ويَحمَدُ رَبَّه، ثُمَّ يَقولُ: ((أمَّتي، فيَقولُ اللهُ له: أدخِلْ من أمَّتِك من لا حِسابَ عليه الجَنَّةَ من البابِ الأيمَنِ))، والحَديثُ في الصَّحيحِ.
الثَّالِثةُ: شفاعتُه في دُخولِ سائِرِ أهلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ.
الرَّابِعةُ: شفاعتُه فيمن دَخلَ النَّارَ من أهلِ الكَبائِرِ.
الخامِسةُ: شفاعتُه في بَعضِ أهلِ النَّارِ حَتَّى يُخَفَّفَ من عَذابِه.
السَّادِسةُ: شفاعتُه في قَومٍ استوجَبوا دُخولَ النَّارِ بذُنوبِهم، فيَشفَعُ فيهم، فلا يَدخُلونَ النَّارَ، ويَدخُلونَ الجَنةَ.
السَّابِعةُ: يَشفَعُ في رَفعِ دَرَجاتِ أقوامٍ وزيادةِ نَعيمِهم) [3410] يُنظر: ((إثبات الشفاعة)) (ص: 20-22). .
13- قال ابنُ القَيِّمِ بَعدَ أن ذَكَرَ أحاديثَ كثيرةً في الشَّفاعةِ: (فقد تَضَمَّنَت هذه الأحاديثُ خَمسةَ أنواعٍ من الشَّفاعةِ:
أحَدُها: الشَّفاعةُ العامَّةُ التي يَرغَبُ فيها النَّاسُ إلى الأنبياءِ نَبيًّا بَعدَ نَبي حَتَّى يُريحَهمُ اللهُ من مَقامِهم.
النَّوعُ الثَّاني: الشَّفاعةُ في فتحِ الجَنةِ لأهلِها.
النَّوعُ الثَّالِثُ: الشَّفاعةُ في دُخولِ مَن لا حِسابَ عليهمُ الجَنةَ.
النَّوعُ الرَّابِعُ: الشَّفاعةُ في إخراجِ قَومٍ من أهلِ التَّوحيدِ من النَّارِ.
النَّوعُ الخامِسُ: في تَخفيفِ العَذابِ عن بَعضِ أهلِ النَّارِ.
ويَبقى نَوعانِ يَذكُرُهما كثيرٌ من النَّاسِ:
أحَدُهما: في قَومٍ استوجَبوا النَّارَ، فيَشفَعُ فيهم ألَّا يَدخُلوها.
وهذا النَّوعُ لَم أقِف إلى الآنَ على حَديثٍ يَدُلُّ عليه، وأكثَرُ الأحاديثِ صَريحةٌ في أنَّ الشَّفاعةَ في أهلِ التَّوحيدِ من أربابِ الكَبائِرِ إنَّما تَكونُ بَعدَ دُخولِهمُ النَّارَ، وأمَّا أن يَشفَعَ فيهم قَبلَ الدُّخولِ فلا يَدخُلونَ فلم أظفَر فيه بنَصٍّ.
والنَّوعُ الثَّاني: شفاعتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقَومٍ من المُؤمِنينَ في زيادةِ الثَّوابِ ورِفعةِ الدَّرَجاتِ.
وهذا قد يُستَدَلُّ عليه بدُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي سَلَمةٍ وقَولِه: ((اللهمَّ اغفِرْ لأبي سَلَمةَ، وارفَعْ دَرَجَتَه في المَهديِّينَ )) [3411] أخرجه مسلم (920) مطولًا من حديثِ أم سلمة رَضِيَ اللهُ عنها. ، وقَولِه في حَديثِ أبي موسى: ((اللهمُ اغفِرْ لعُبَيدٍ أبي عامِرٍ واجعَله يَومَ القيامةِ فوقَ كثيرٍ من خَلقِك )) [3412] أخرجه البخاري (4323)، ومسلم (2498) مطولًا.  [3413] يُنظر: ((تهذيب سنن أبي داود)) (13/ 55). .
14- قال ابنُ أبي العِزِّ: (النَّوعُ الأوَّلُ: الشَّفاعةُ الأولى، وهيَ العُظمى، الخاصَّةُ بنَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بينَ سائِرِ إخوانِه من الأنبياءِ والمُرسَلينَ، صَلَواتُ الله عليهم أجمَعينَ...
النَّوعُ الثَّاني والثَّالِثُ من الشَّفاعةِ: شفاعتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أقوامٍ قد تَساوَت حَسَناتُهم وسيئاتُهم، فيَشفَعُ فيهم ليَدخُلوا الجَنَّةَ، وفي أقوامٍ آخَرينَ قد أُمِرَ بهم إلى النَّارِ ألَّا يَدخُلوها.
النَّوعُ الرَّابِعُ: شفاعتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رَفعِ دَرَجاتِ مَن يَدخُلُ الجَنةَ فيها فوقَ ما كان يَقتَضيه ثَوابُ أعمالِهم.
النَّوعُ الخامِسُ: الشَّفاعةُ في أقوامٍ أن يَدخُلوا الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ.
النَّوعُ السَّادِسُ: الشَّفاعةُ في تَخفيفِ العَذابِ عَمَنَ يَستَحِقُّه، كشفاعتِه في عَمِّه أبي طالِبٍ أن يُخَفَّفَ عنه عَذابُه.
النَّوعُ السَّابِعُ: شفاعتُه أن يُؤذَنَ لجَميعِ المُؤمِنينَ في دُخولِ الجَنةِ، كما تَقَدَّمَ.
النَّوعُ الثَّامِنُ: شفاعتُه في أهلِ الكَبائِرِ من أمَّتِه مِمَّن دَخلَ النَّارَ، فيَخرُجونَ منها، وقد تَواتَرَت بهذا النَّوعِ الأحاديثُ) [3414] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 283-290). .
15- قال ابنُ رَجَبٍ: (أمَّا الشَّفاعةُ التي اختَصَّ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بينِ الأنبياءِ، فليست هيَ الشَّفاعةَ في خُروجِ العُصاةِ من النَّارِ؛ فإنَّ هذه الشَّفاعةَ يُشارِك فيها الأنبياءُ والمُؤمِنونَ أيضًا، كما تَواتَرت بذلك النُّصوصُ، وإنَّما الشَّفاعةُ التي يَختَصُّ بها من دونِ الأنبياءِ أربَعةُ أنواعٍ:
أحَدُها: شفاعتُه للخَلقِ في فصلِ القَضاءِ بينَهم.
والثَّاني: شفاعتُه لأهلِ الجَنةِ في دُخولِ الجَنةِ.
والثَّالِثُ: شفاعتُه في أهلِ الكَبائِرِ من أهلِ النَّارِ، فقد قيلَ: إنَّ هذه يَختَصُّ هو بها.
والرَّابِعُ: كثرةُ مَن يَشفَعُ له من أمَّتِه؛ فإنَّه وفَّرَ شفاعتَه وادَّخَرَها إلى يَومِ القيامةِ.
وقد ورَدَ التَّصريحُ بأنَّ هذه الشَّفاعةَ هيَ المُرادةُ في هذا الحَديثِ؛ ففي الحَديثِ الذي خَرَّجَه الإمامُ أحمَدُ من حَديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطيتُ الليلةَ خَمسًا ما أُعطيهنَّ نَبيٌّ كان قَبلي))، فذَكرَ الحَديثَ، إلى أنْ قال: ((والخامِسةُ هيَ ما هيَ! قيلَ لي: سَلْ؛ فإنَّ كُلَّ نَبيٍّ قد سَألَ، فأخَّرْتُ مَسألَتي إلى يَومِ القيامةِ، فهيَ لَكم ولَمَن شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ )) [3415] أخرجه أحمد (7068)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4489)، والبيهقي (1099). صحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7068)، وصحَّحه لغيره الوادعي في ((الشفاعة)) (92)، وصحَّح إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/319)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (12/25)، وحسَّنه الألباني في ((إرواء الغليل)) (1/317)، وجوَّده ابن تيمية في ((شرح العمدة - الصلاة)) (424)، وجوَّده وقواه ابن كثير في ((التفسير)) (3/489). وأصل الحديث مختصرًا في صحيح البخاري (438)، ومسلم (521) من حديثِ جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وفي الصَّحيحينِ عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لكُلِّ نَبيٍّ دَعوةٌ يَدعو بها، فأريدُ أن أختَبِئَ دَعوَتي شفاعةً لأمَّتي يَومَ القيامةِ )) [3416] أخرجه البخاري (6304)، ومسلم (198) باختلافٍ يسيرٍ ... وقد ذَكَرَ بَعضُهم شفاعةً خامِسةً خاصَّةً بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ: شفاعتُه في تَخفيفِ عَذَابِ بَعضِ المُشرِكينَ، كما شَفعَ لَعَمِّه أبي طالِبٍ، وجَعلَ هذا من الشَّفاعةِ المُختَصِّ بها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وزادَ بَعضُهم شفاعةً سادِسةً خاصَّةً بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ: شفاعتُه في سَبعينَ ألفًا يَدخُلونَ الجَنةَ بغَيرِ حِسابٍ)  [3417]يُنظر: ((فتح الباري)) (2/ 22-25). .
16- قال ابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيُّ: (فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَشفَعُ في الخَلقِ لإراحَتِهم من هولِ المَوقِفِ، ويَشفَعُ في بَعضِ الكُفَّارِ بتَخفيفِ العَذابِ، كما صَحَّ في حَقِّ أبي طالِبٍ، ويَشفَعُ في بَعضِ المُؤمِنينَ بالخُروجِ من النَّارِ بَعدَ أن دَخلوها، وفي بَعضِهم بعَدَمِ دُخولِها بَعدَ أنِ استَوجَبوا دُخولها، وفي بَعضِهم بدُخولِ الجَنةِ بغَيرِ حِسابٍ، وفي بَعضِهم برَفعِ الدَّرَجاتِ فيها) [3418] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/194). .
17- قال ابن حجر الهيتمي: (له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شفاعاتٌ غَيرُ العُظمى: كالشَّفاعةِ لمَن يَدخُلُ من أمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنةَ بغَيرِ حِسابٍ، وهذه كالعُظمى من خَصائِصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِعُصاةٍ أدخَلَتْهم ذُنوبُهمُ النَّارَ فيَخرُجونَ، وإنكارُ المُعتَزَلةِ لهذه من ضَلالاتِهم، كيفَ وقد صَحَّتِ الأحاديثُ الكَثيرةُ بها من غَيرِ مُعارِضٍ لها؟! ولِقَومٍ استَحَقُّوا دُخولَها فلَم يَدخُلوها، قال النَّوَويُّ: ويَجوزُ أن يَشرَكَه في هذه الأنبياءُ والعُلَماءُ والأولياءُ، وفي قَومٍ حَبَستُهمُ الأوزارُ ليَدخُلوا الجَنةَ، ولِبَعضِ أهلِ الجَنَّةِ في رَفعِ دَرَجاتِهم، فيُعطى كُلٌّ منهم ما يُناسِبُه، قال: وهذه يَجوزُ أن يَشرَكَه فيها من ذُكِرَ أيضًا، ولِمَن مات بالمَدينةِ الشَّريفةِ... ولِفَتحِ بابِ الجَنةِ، كما أخرجه مُسلِمٌ، ولِمَن أجابَ المُؤذِّنِ، ولِقَومٍ كُفَّارٍ لهم سابِقُ خِدمةٍ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تَخفيفِ عَذابِهم) [3419] يُنظر: ((الدر المنضود)) (ص: 206). .
18- قال السَّفارينيُّ: (شفاعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَوعٌ من السَّمعيَّاتِ ورَدَت بها الآثارُ حَتَّى بَلَغَت مَبلَغَ التَّواتُرِ المَعنَويِّ، وانعَقَدَت عليها إجماعُ أهلِ الحَقِّ من السَّلَفِ الصَّالِحِ قَبلَ ظُهورِ المُبتَدِعةِ، لَكِنَّ هذه الشَّفاعةَ العُظمى مُجْمَعٌ عليها لَم يُنكِرْها أحَدٌ مِمَّن يَقولُ بالحَشرِ؛ إذ هيَ للإراحةِ من طولِ الوُقوفِ حينَ يَتَمَنَّونَ الِانصِرافَ من مَوقِفِهم ذلك، ولَو إلى النَّارِ) [3420] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 208). .
وقال أيضًا: (الحاصِلُ أنَّ للنَّاسِ شفاعاتٍ بقَدرِ أعمالِهم، وعُلوِّ مَراتِبهم وقُرْبِهم من اللهِ تعالى... «سِوى» الشَّفاعاتِ «التي خُصَّت بذي» أي بصاحِبِ «الأنوارِ» نَبِيِّنا المُختارِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما دارتِ الأدوارُ، وتَعاقَبَ الليلُ والنَّهارُ، فلا يُشارِكُه فيها نَبيٌّ مُرسَلٌ، ولا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا صِدِّيقٌ ولا شَهيدٌ؛ لأنَّها مُختَصَّةٌ بجَنابِه الرَّفيعِ، وقَدرِه المَجيدِ، والشَّفاعاتُ المُختَصَّةُ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِدَّةٌ:
«أوَّلُها»: وهيَ أعظَمُها وأعَمُّها، شفاعتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفَصلِ القَضاءِ بينَ الوَرى بَعدَ التَّرَدُّدِ إلى الأنبياءِ، وتَدافُعِها بينَ أخيارِ المَلأِ إلى أن تَصِلَ لصاحِبِ الحَوضِ المَورودِ، وهي المَقامُ المَحمودُ، وقد عَمَّ العالَمَ زيادةُ القَلَقُ، وتَصاعُدِ العَرَقِ، وقاسوا من ذلك ما يُذيبُ الأكبادَ، ويُنسي الأولادُ، وهذه مُجْمَعٌ عليها لَم يُنكِرْها أحَدٌ.
«ثانيها»: يَشفَعُ عِندَ رَبِّه في إدخالِ قَومٍ من أمَّتِه الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، فإنَّ هذه خاصَّةٌ به أيضًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...
«ثالِثُها»: شفاعتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَومٍ استوجَبوا النَّارَ بأعمالِهم، فيَشفَعُ فيهم فلا يَدخُلونَها...
«رابِعًا»: في رَفعِ دَرَجاتِ ناسٍ في الجَنَّةِ...
«خامِسُها»: الشَّفاعةُ في إخراجِ عُمومِ أمَّتِه من النَّارِ حَتَّى لا يَبقى منهم أحَدٌ... وبِالشَّفاعةِ في جَماعةٍ من صُلَحاءِ المُسلِمينَ ليَتَجاوَزَ عنهم في تَقصيرِهم في الطَّاعاتِ) [3421] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 211). .
19- قال ابنُ بازٍ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له شفاعاتٌ، منها: شَيءٌ يَختَصُّ به، ومنها شَيءٌ يَشتَرِك مَعَه النَّاسُ فيه.
فأمَّا الشَّفاعةُ التي تَختَصُّ به فهيَ الشَّفاعةُ العُظمى لأهلِ المَوقِفِ يَشفَعُ لهم، يَسجُدُ عِندَ رَبِّه ويَحمَدُه مَحامِدَ عَظيمةً، ويَأذَنُ اللهُ له بالشَّفاعةِ، فيَشفَعُ لأهلِ المَوقِفِ حَتَّى يَقضيَ بينَهم، وهذه من خَصائِصِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهذا هو المَقامُ المَحمودُ، الذي ذَكَرَ اللهُ جَلَّ وعلا في سورةِ بني إسرائيلَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا وهذا المَقامُ هو مَقامُ الشَّفاعةِ، يَحمَدُه فيه الأولونُ والآخِرونَ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فإنَّه تَتَوَجَّه إليه الخَلائِقُ يَومَ القيامةِ، المُؤمِنونَ يَتَوَجَّهونَ إليه، بَعدَما يَتَوَجَّهونَ إلى آدَمَ ونوحٍ، وإبراهيمَ، وموسى، وعيسى، فكُلُّهم يَعتَذِرونَ، ثُمَّ يَقولُ لهم عيسى: اذهَبوا إلى عَبدٍ قد غَفَرَ اللهُ له من ذَنبِه ما تَقَدَّمَ وما تَأخَّرَ، يَعني مُحَمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيَتَوَجَّهونَ إليه فإذا طَلَبوا منه، تَقَدَّمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى رَبِّه، وسَجَدَ بينَ يَدَيِ العَرْشِ، وحَمِدَه سُبحانَه بمَحامِدَ عَظيمةٍ، يَفتَحُها اللهُ عليه، ثُمَّ يُقالُ له: يا مُحَمَّدُ ارفَع رَأسَك، وقُلْ يُسمَعْ، واسأَلْ تُعْطَه، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فيُشفَّعُ عِندَ ذلك، بَعدَ إذْنِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ لأنَّه يَقولُ جَلَّ وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فلا أحَدَ يَشفَعُ عِندَه إلَّا بإذنِه سُبحانَه وتعالى.
وهناك شفاعاتٌ أخرى خاصَّةٌ به، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهيَ الشَّفاعةُ في أهلِ الجَنةِ ليَدخُلوا الجَنةَ؛ فإنَّهم لا يَدخُلونَ ولا تُفتَحُ لهم إلَّا بشفاعتِه، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، هذه خاصَّةٌ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وهناك شفاعةٌ ثالِثةٌ خاصَّةٌ به لأبي طالِبٍ عَمِّه، وهو أنْ شَفعَ له حَتَّى صارَ في ضَحضاحٍ من النَّارِ، وهو قد مات على الكُفرِ بالله، وصارَ في غَمَراتٍ من النَّارِ، فيَشفَعُ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَكونَ في ضَحضاحٍ من النَّارِ، بسَبَبِ نَصرِه إيَّاه؛ لأنَّه نَصرَه وحَماه لَمَّا تَعدَّى عليه قَومُه، فيَشفَعُ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَكونَ في ضَحضاحٍ من النَّارِ، وهذه شفاعةٌ خاصَّةٌ بأبي طالِبٍ، مُستَثناةٌ من قَولِه جَلَّ وعلَا: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ إلَّا في هذه الخَصلةِ، مَعَ أبي طالِبٍ خاصَّةً، وأبو طالِبٍ مُخلَّدٌ في النَّارِ مَعَ الكَفرةِ، لَكِنَّه في ضَحضاحٍ من النَّارِ، يَغلي منه دِماغُه، نَسألُ اللهَ العافيةَ، وهو أهونُ أهلِ النَّارِ عَذَابًا!) [3422] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (2/ 103-105). .
20- قال ابنُ عُثَيمين: (مِمَّا يَدخُلُ في الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ كذلك الشَّفاعةُ.
وهيَ نَوعانِ: أحَدُهما: خاصٌّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
والثَّاني: عامٌّ له ولِسائِرِ النَّبَيِّينِ، والصِّدِّيقينَ، والشُّهداءِ، والصَّالِحينَ.
أمَّا الخاصُّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
أوَّلًا: الشَّفاعةُ العُظمى التي تَكونُ للقَضاءِ بينَ النَّاسِ، وذلك أنَّ النَّاسَ يَومَ القيامةِ يَلحَقُهم من الكَربِ، والهَمِّ، والغَمِّ، ما لا يُطيقونَ؛ لأنَّهم يَبقونَ خَمسينَ ألفَ سَنةٍ، والشَّمسُ من فوقِ رُؤوسِهم، والعَرَقُ قد يُلجِمُ بَعضَهم، فيَجِدونَ همًّا، وغَمًّا، وكَربًا، فيَطلُبونَ مَن يَشفَعُ لهم إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ فينجيهم من ذلك... فيَأتون إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَطلُبونَ منه الشَّفاعةَ... فيَشفَعُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اللهِ فيَنزِلُ اللهُ تعالى للقَضاءِ بينَ عِبادِه ويُريحُهم من هذا المَوقِفِ.
ثانيًا: من الشَّفاعةِ الخاصَّةِ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَشفَعَ لأهلِ الجَنةِ أن يَدخُلوا الجَنةَ، فأهلُ الجَنةِ إذا عَبَروا الصِّراطَ ووَصَلوا إلى بابِ الجَنَّةِ وجَدوه مُغلَقًا، فيَشفَعُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اللهِ بأن يَفتَحَ لهم بابَ الجَنةِ، وقد أشارَ اللهُ إلى هذه الشَّفاعةِ، فقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، ولَم يَقُلْ: حَتَّى إذا جاءوها فُتِحت، كما قال في أهلِ النَّارِ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ، أمَّا في أهلِ الجَنَّةِ فقال: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ؛ لأنَّها لا تُفتَحُ إلَّا بَعدَ الشَّفاعةِ.
أمَّا الذي تَكونُ فيه الشَّفاعةُ عامةً له ولِسائِرِ النَّبيِّينِ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالِحينَ، فهما شفاعتانِ:
الأولى: الشَّفاعةُ في أهلِ النَّارِ من المُؤمِنينَ أن يَخرُجوا من النَّارِ.
والثَّانيةُ: الشَّفاعةُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ من المُؤمِنينَ ألَّا يَدخُلَ النَّارَ) [3423] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (3/ 181-184). .

انظر أيضا: