الموسوعة العقدية

الفَرعُ الخامِسُ: قَتْلُه رَجُلًا مُؤمِنًا ثُمَّ إحياؤُه

عَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عَنه قال: حَدَّثنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا حَديثًا طَويلًا عَنِ الدَّجَّالِ، فكان فيما حَدَّثنا قال: ((يَأتي وهو مُحرَّمٌ عليه أن يَدخُلَ نِقابَ الْمَدينةِ، فيَنتَهي إلى بَعضِ السِّباخِ الَّتي تَلي الْمَدينةَ، فيَخرُجُ إليه يومَئِذٍ رَجُلٌ هو خَيرُ النَّاسِ -أو من خَيرِ النَّاسِ- فيَقولُ لَه: أشهَدُ أنَّكَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَديثَه، فيَقولُ الدَّجَّالُ: أرأيتُم إن قَتَلْتُ هذا ثُمَّ أحيَيْتُه، أتَشُكُّونَ في الأمرِ؟ فيَقولونَ: لا. قال: فيَقتُلُه ثُمَّ يَحييه. فيَقولُ حينَ يُحييه: واللهِ ما كُنتُ فيكَ قَطُّ أشَدَّ بصيرةً مِنِّي الآنَ! قال: فيُريدُ الدَّجَّالُ أن يَقتُلَه فلا يُسَلَّطُ عليه )) [2635] أخرجه البخاري (7132)، ومسلم (2938) واللَّفظُ له. .
قال الكَرْمانيُّ: (قَولُه: ((نِقاب)) جَمعُ النَّقبِ، وهو الطَّريقُ بينَ الجَبَلين، وقيل: هو بُقعةٌ بعينِها، و((رَجُلٌ)) قيلَ: هو الخَضِرُ عليه السَّلامُ، و ((يَقولونَ: لا)) والقائِلونَ به إمَّا اليَهودُ ونَحوُهم، وإمَّا الْمُسلِمونَ، فقالوه خَوفًا مِنه، أو مَعناه لا نَشُكُّ في كُفرِكَ وبُطلانِ قَولِكَ، قَولُه: ((أشَدَّ بَصيرةً))؛ لأنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بأنَّ ذلك من جُملةِ عَلاماتِه، و((لا يُسلَّطُ عليه)) أي: لا يَقْدِرُ على قَتلِه بأنْ لا يُخلَقَ القَطْعُ في السَّيفِ، أو يُجعَلَ بَدنُه كالنُّحاسِ مَثَلًا وغَير ذلك) [2636] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (24/ 189). .
وقال القَسْطَلَّانيُّ: ( ((يَأتي الدَّجَّالُ -وهو مُحرَّمٌ عليه أن يَدخُلَ)) أي: دُخولُه ((نِقابَ الْمَدينةِ، يَنزِلُ)) جُملةٌ مُستَأنَفةٌ، كأنَّ قائِلًا قال: إذا كان الدُّخولُ عليه حَرامًا فكَيفَ يَفعَلُ؟ قال: يَنزِلُ: ((بَعضَ السِّبَاخِ الَّتي بالمَدينةِ))، بكَسرِ السِّينِ جَمعَ سَبخةٍ، وهيَ الأرضُ تَعلوها الْمُلوحةُ ولا تَكادُ تُنبِتُ شَيئًا، والمَعنى أنَّه يَنزِلُ خارِجَ الْمَدينةِ على أرضٍ سَبخةٍ من سِباخِها، وسَقَطَ في رِوايةِ أبي ذَرٍّ عَنِ الكشميهنيِّ قَولُه: يَنزِلُ. ((فيَخرُجُ إليه)) أي: إلى الدَّجَّالِ ((يومَئِذٍ رَجُلٌ هو خَيرُ النَّاسِ -أو من خَيرِ النَّاسِ-)) شَكٌّ مِنَ الرَّاوي... ((فيَقولُ)) الرَّجُلُ: ((أشهَدُ أنَّكَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثنا عَنكَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَديثَه)) ((فيَقولُ الدَّجَّالُ)): لِمَن مَعَه من أوليائِه ((أرأيتَ)) أي: أخبِرْني ((إن قَتَلْتُ هذا)) الرَّجُلَ ((ثُمَّ أحييتُه، هَل تَشُكُّونَ في الأمرِ؟ فيَقولونَ: لا)) أيِ: اليَهودُ ومَن يُصَدِّقُه من أهلِ الشَّقاوةِ، أوِ العُمومُ يَقولونَ ذلك خَوفًا مِنه لا تَصديقًا لَه، أو يَقصِدونَ بذلك عَدَمَ الشَّكِّ في كُفرِه وأنَّه دَجَّالٌ ((فيَقتُلُه ثُمَّ يُحييه)) بقُدرةِ الله تعالى ومَشيئَتِه. وفي مُسْلِمٍ: فيَأمُرُ الدَّجَّالُ به فيُشَجُّ، فيَقولُ: خُذوه، فيوسَعُ ظَهرُه وبَطنُه ضَربًا، فيَقولُ: أوما تُؤْمِنُ بي؟ قال: فيَقولُ: أنت الْمَسيحُ الكَذَّابُ، فيُؤْشَرُ بالمِنشارِ من مَفرِقِه حَتَّى يُفَرِّقَ بينَ رِجْلَيه، قال: ثُمَّ يَمشي الدَّجَّالُ بينَ القِطعَتين، ثُمَّ يَقولُ لَه: قُمْ، فيَستَوي قائِمًا، ((فيَقولُ حينَ يُحييه: واللهِ ما كُنتُ قَطُّ أشَدَّ بصيرةً مِنِّي اليَومَ))؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بأنَّ عَلامةَ الدَّجَّالِ أنَّه يُحيي الْمَقتولَ، فزادَت بصيرَتُه بتِلكَ العَلامةِ. وفي بَعضِ النُّسَخِ: أشَدَّ مِنِّي بصيرةً اليَومَ، فالمُفَضَّلُ والمُفَضَّلُ عليه كِلاهما هو نَفسُ الْمُتَكَلِّمِ، لَكِنَّه مُفَضَّلٌ باعتِبارِ غَيرِه ((فيَقولُ الدَّجَّالُ: أقتله، فلا يُسَلَّطُ عليه)) أي: على قَتلِه؛ لأنَّ الله يُعجِزُه بَعدَ ذلك فلا يَقْدِرُ على قَتلِ ذلك الرَّجُلِ ولا غَيرِه، وحينَئِذٍ يَبْطُلُ أمرُه) [2637] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (3/ 338). .
وعَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَتَلْقاهُ المَسالِحُ، مَسالِحُ الدَّجَّالِ، فيَقولونَ له: أيْنَ تَعْمِدُ؟ فيَقولُ: أعْمِدُ إلى هذا الذي خَرَجَ، قالَ: فيَقولونَ له: أوَما تُؤْمِنُ برَبِّنا؟ فيَقولُ: ما برَبِّنا خَفاءٌ، فيَقولونَ: اقْتُلُوهُ، فيَقولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أليسَ قدْ نَهاكُمْ رَبُّكُمْ أنْ تَقْتُلُوا أحَدًا دُونَهُ؟ قالَ: فَيَنْطَلِقُونَ به إلى الدَّجَّالِ، فإذا رَآهُ المُؤْمِنُ قالَ: يا أيُّها النَّاسُ، هذا الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ به فيُشَبَّحُ، فيَقولُ: خُذُوهُ وشُجُّوهُ، فيُوسَعُ ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضَرْبًا، قالَ: فيَقولُ: أوَما تُؤْمِنُ بي؟ قالَ: فيَقولُ: أنْت المَسِيحُ الكَذَّابُ، قالَ: فيُؤْمَرُ به فيُؤْشَرُ بالمِئْشارِ من مَفْرِقِهِ حتَّى يُفَرَّقَ بيْنَ رِجْلَيْهِ، قالَ: ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بيْنَ القِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يقولُ له: قُمْ، فَيَسْتَوِي قائِمًا، قالَ: ثُمَّ يقولُ له: أتُؤْمِنُ بي؟ فيَقولُ: ما ازْدَدْتُ فِيكَ إلَّا بَصِيرَةً، قالَ: ثُمَّ يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّه لا يَفْعَلُ بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قالَ: فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فيُجْعَلُ ما بيْنَ رَقَبَتِهِ إلى تَرْقُوَتِهِ نُحاسًا، فلا يَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا، قالَ: فَيَأْخُذُ بيَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ به، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أنَّما قَذَفَهُ إلى النَّارِ، وإنَّما أُلْقِيَ في الجَنَّةِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هذا أعْظَمُ النَّاسِ شَهادَةً عِنْدَ رَبِّ العالَمِينَ)) [2638] أخرجه مسلم (2938). .
قال الخَطابيُّ: (قَد يُسأَلُ عَن هذا، فيُقالُ: كيفَ يَجوزُ أن يُجريَ اللهُ تعالى آياتِه على أيدي أعدائِه؟ وإحياءُ الْموتى آيةٌ عَظيمةٌ من آياتِ أنبيائِه؟ فكَيفَ مَكَّنَ مِنه الدَّجَّالَ، وهو كَذَّابٌ مُفتَرٍ على اللهِ يَدَّعي الرُّبوبيَّةَ لنَفسِه؟!
فالجَوابُ: أنَّ هذا جائِزٌ على سَبيلِ الِامتِحانِ لعَبادِه إذا كان مِنه ما يَدُلُّ على أنَّه مُبْطِلٌ، غَيرُ مُحِقٍّ في دَعواه، وهو أنَّ الدَّجَّالَ أعورُ عينِ اليُمنى ((مَكتوبٌ على جَبهَتِه كافِرٌ، يَقرَؤُه كُلُّ مُسْلِمٍ )) [2639] أخرجه مسلم (2933) باختلافٍ يسيرٍ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ، فدَعواه داحِضةٌ مَعَ وسْمِ الكُفرِ ونَقْصِ العَورِ الشَّاهِدَينِ بأنَّه لَو كان رَبًّا لقَدَرَ على رَفعِ العَورِ عَن عينِه ومَحوِ السِّمةِ عَن وجهِه، وآياتُ الأنبياءِ الَّتي أُعطوها الأنبياءُ بريئةٌ عَمَّا يُعارِضُها ونَقائِضها؛ فلا يَشتَبِهانِ بحَمدِ الله) [2640] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (4/ 2331). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (مِن حِكمةِ الله عَزَّ وجَلَّ أنَّه سُبْحانَه وتعالى يُعطي الدَّجَّالَ آياتٍ فيها فِتَنٌ عَظيمةٌ...مِن فتنَتِه أنَّه يَخرُجُ إليه رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ مُمتَلِئٌ شَبَابًا، فيَقولُ لَه: أنت الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ لَنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَدعوه، فيَأبى أن يَتبَعَه فيَضرِبُه، ويَشُجُّه في الْمَرَّةِ الأولى، ثُمَّ يَقتُلُه، ويُقطِّعُه قِطعَتين، ويَمشي بينَهما تَحقيقًا للمُبايَنةِ بينَهما، ثُمَّ يَدعوه فيَقومُ يَتَهَلَّلُ وَجْهُه، ويَقولُ: أنت الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ لَنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يَأتي ليَقتُلَه فلا يُسَلَّطُ عليه، يَعجِزُ عَن قَتْلِه، ولَن يُسَلَّطَ على أحَدٍ بَعدَه، فهذا من أعظَمِ النَّاسِ شَهادةً عِندَ الله؛ لأنَّه في هذا الْمَقامِ العَظيمِ الرَّهيبِ الذي لا نَتَصَوَّرُه نَحنُ في هذا الْمَكانِ، لا يَتَصَوَّرُ رَهبَتُه إلَّا من باشَرَه، ومَعَ ذلك يُصرِّحُ على الْمَلَأِ إعذارًا وإنذارًا بأنَّكَ أنت الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ لَنا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هَذِه حالُه، وما يَدعو إليه) [2641] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 15). .

انظر أيضا: