الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الأوَّلُ: تَحتُّمُ وُقوعِ المَوتِ على الكائِناتِ في الدُّنيا

إنَّ الموتَ واقِعٌ حتمًا على جميعِ الكائناتِ في الدُّنيا من الإنسِ والجِنِّ والدوابِّ وغَيرِهم.
قال اللهُ تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] .
قال ابنُ كَثيرٌ: (قَولُه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ: إخبارٌ بأنَّه الدَّائِمُ الباقي الحَيُّ القَيُّومُ، الَّذي تَموتُ الخَلائِقُ ولا يَموتُ، كَما قال تعالى: كُلُّ مَن عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، فعَبَّرَ بالوَجهِ عَنِ الذَّاتِ، وهَكَذا قَولُه هاهنا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: إلَّا إيَّاه... وقال مُجاهِدٌ والثَّوريُّ في قَولِه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: إلَّا ما أُريدَ به وَجهُه. وهَذا القَولُ لا يُنافي القَولَ الأوَّلَ؛ فإنَّ هَذا إخبارٌ عَن كُلِّ الأعمالِ بأنَّها باطِلةٌ إلَّا ما أُريدَ بها وَجهُ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ مِنَ الأعمالِ الصَّالِحةِ المُطابقةِ لِلشَّريعةِ، والقَولُ الأوَّلُ مُقتَضاه أنَّ كُلَّ الذَّواتِ فانيةٌ وهالِكةٌ وزائِلةٌ إلَّا ذاتَه تعالى؛ فإنَّه الأوَّلُ الآخِرُ الَّذي هو قَبلَ كُلِّ شَيءٍ وبَعدَ كُلِّ شَيءٍ) .
وقال اللهُ سُبحانَه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26-27].
قال السَّعديُّ: (أي: كُلُّ مَن على الأرضِ من إنسٍ وجِنٍّ، ودَوَابَّ، وسائِرِ المَخلوقاتِ، يَفنَى ويَموتُ ويَبِيدُ ويَبقَى الحَيُّ الَّذي لا يَموتُ) .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] .
قال ابنُ جريرٍ: (لا شَيءَ يبقى فلا يفنى، غيرُ رَبِّنا الحَيِّ الذي لا يموتُ) .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (يُخبرُ تعالى إخبارًا عامًّا يَعُمُّ جَميعَ الخَليقةِ بأنَّ كُلَّ نَفسٍ ذائِقةُ المَوتِ، كَقَولِه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26-27] فهو تعالى وحدَه هو الحَيُّ الَّذي لا يَموتُ والإنسُ والجِنُّ يَموتونَ، وكَذلك المَلائِكةُ وحَملةُ العَرشِ، ويَنفرِدُ الواحِدُ الأحَدُ القَهَّارُ بالدَّيمومةِ والبَقاءِ، فيَكونُ آخِرًا كَما كانَ أوَّلًا.
وهَذِه الآيةُ فيها تَعزيةٌ لِجَميعِ النَّاسِ؛ فإنَّه لا يَبقَى أحَدٌ على وَجهِ الأرضِ حَتَّى يَموتَ، فإذا انقَضَتِ المُدَّةُ وفَرَغَتِ النُّطفةُ الَّتي قَدَّرَ اللَّهُ وُجودَها من صُلبِ آدَمَ وانتَهَتِ البَريَّةُ أقامَ اللَّهُ القيامةَ وجازَى الخَلائِقَ بأعمالِها جَليلِها وحَقيرِها، كَثيرِها وقَليلِها، كَبيرِها وصَغيرِها، فلا يَظلِمُ أحَدًا مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ ولِهَذا قال: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (إنَّ اللَّهَ تعالى قَضَى على عِبادِه بالمَوتِ، كَما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] ، والمَوتُ: هو مُفارَقةُ الرُّوحِ لِلجَسَدِ، ولا يَحصُلُ ذلك إلَّا بألمٍ عَظيمٍ جِدًّا، وهو أعظَمُ الآلامِ الَّتي تُصيبُ العَبدَ في الدُّنيا) .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34 – 35].
قال السَّعديُّ: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ أي: فهَل إذا مِتَّ خُلِّدوا بَعدَكَ؟ فلْيَهْنِهمُ الخُلودُ إذًا إن كانَ، ولَيسَ الأمرُ كَذلك، بَل كُلُّ مَن عليها فانٍ؛ ولِهَذا قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وهَذا يَشمَلُ سائِرَ نُفوسِ الخَلائِقِ، وإنَّ هَذا كأسٌ لا بُدَّ من شُربِه وإن طالَ بالعَبدِ المَدَى، وعُمِّرَ سِنينَ) .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 56-57].
قال ابنُ كَثيرٍ: (أي: أَينَما كُنتُم يُدرِكْكُمُ المَوتُ، فكَونوا في طاعةِ اللَّهِ وحَيثُ أمرَكُمُ اللَّهُ، فهو خَيرٌ لَكُم، فإنَّ المَوتَ لا بُدَّ مِنه، ولا مَحيدَ عَنه، ثُمَّ إلَى اللهِ المَرجِعُ والمَآبُ، فمَن كانَ مُطيعًا له جازاه أفضَلَ الجَزاءِ، ووافاهَ أتَمَّ الثَّوابِ) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يَقولُ: ((أعوذُ بعِزَّتِكَ لا إلَهَ إلَّا أنتَ أن تُضِلَّني، أنتَ الحَيُّ الَّذي لا يَموتُ، والجِنُّ والإنسُ يَموتونَ ))
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: ((والجِنُّ والإنسُ يَموتونَ)) إنَّما خَصَّ هَذَينِ النَّوعَينِ بالمَوتِ، وإن كانَ جَميعُ الحَيَوانِ يَموتُ؛ لِأنَّ هَذَينِ النَّوعَينِ هما المُكَلَّفانِ المَقصودانِ بالتَّبليغِ. واللَّهُ أعلَمُ) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 261-266).
  2. (2) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 830).
  3. (3) يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 89).
  4. (4) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 177).
  5. (5) يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 356).
  6. (6)  يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 523).
  7. (7) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 291).
  8. (8) أخرجه مسلم (2717) مُطَوَّلًا.
  9. (9) يُنظر: ((المفهم)) (7/ 46).