الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّاني: الإيمانُ بأنَّ الأجَلَ مَحدودٌ

إنَّ كُلَّ مَخلوقٍ لَه أجلٌ مَحدودٌ يَنتَهي إليه، وقَد عَلِمَ اللَّهُ تعالى جَميعَ ذلك، وجَرَى به القَلَمُ بأمرِه، ثُمَّ كَتَبَه المَلَكُ على كُلِّ أحَدٍ وهو في بَطنِ أمِّه، فلا يُزادُ في أجلِ أحَدٍ ولا يُنقَصُ مِنه ولا يُغَيَّرُ ولا يُبَدَّلُ عَمَّا سَبَقَ به عِلمُ اللَّهِ تعالى وجَرَى به قَضاؤُه وقَدَرُه [1328] يُنظر: ((معارج القبول)) لحافظ الحكمي (2/ 704). .
قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا [آل عمران: 145] .
قال ابنُ جَرير: (يعني تعالى ذِكرُه بذلك: وما يَموتُ مُحَمَّدٌ ولا غَيرُه من خَلقِ اللَّهِ إلَّا بَعدَ بُلوغِ أجلِه الَّذي جَعَلَه اللَّهُ غايةً لِحَياتِه وبَقائِه، فإذا بَلَغَ ذلك مِنَ الأجلِ الَّذي كَتَبَه اللَّهُ لَه وأَذِنَ لَه بالمَوتِ فحينَئِذٍ يَموتُ، فأمَّا قَبلَ ذلك فلَن تَموتَ بكَيدِ كائِدٍ ولا بحيلةِ مُحتالٍ) [1329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/ 106). .
وقال ابنُ عَطيَّةَ: (أخبَرَ تعالى عَنِ النُّفوسِ أنَّها إنَّما تَموتُ بأجَلٍ مَكتوبٍ مَحتومٍ واحِدٍ عِندَ اللَّهِ تعالى، أي فالجُبنُ لا يَزيدُ فيه، والشَّجاعةُ والإقدامُ لا تَنقُصُ مِنه) [1330] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/ 517). .
وعَن عِبد اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قالت أمُّ حَبيبةَ رَضيَ اللهُ عنها: اللَّهمُ مَتِّعْني بزَوجي رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبأبي أبي سُفيانَ، وبأخي مُعاويةَ، فقال لَها رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّكِ سألتِ اللَّهَ لِآجالٍ مَضروبةٍ وآثارٍ مَوطوءةٍ وأرزاقٍ مَقسومةٍ لا يُعَجَّلُ شَيءٌ مِنها قَبلَ حِلِّه، ولا يُؤَخِّرُ مِنها يَومًا بَعدَ حِلِّه، ولَو سألْتِ اللَّهَ أنْ يُعافيَكِ من عَذابٍ في النَّارِ وعَذابٍ في القَبرِ لَكانَ خَيرًا لَكَ )) [1331] أخرجه مسلم (2663). . وفي روايةٍ: ((قَد سألتِ اللَّهَ لِآجالٍ مَضروبةٍ وأيَّامٍ مَعدودةٍ وأرزاقٍ مَقسومةٍ لَن يُعَجِّلَ شَيئًا قَبلَ حِلِّه أو يُؤَخِّرَ شَيئًا عَن حِلِّه، ولَو كُنتِ سألتِ اللَّهَ أنْ يُعيذَكِ من عَذابٍ في النَّارِ أو عَذابٍ في القَبرِ كانَ خَيرًا وأفضَلَ)) [1332] أخرجه مسلم (2663). .
قال النَّوويُّ: (هَذا الحَديثُ صَريحٌ في أنَّ الآجالَ والأرزاقَ مُقَدَّرةٌ لا تَتَغَيَّرُ عَمَّا قَدَّرَه اللَّهُ تعالى وعَلِمَه في الأزَلِ، فيَستَحيلُ زيادَتُها ونَقصُها حَقيقةً عَن ذلك... فإنْ قيلَ: ما الحِكمةُ في نَهْيِها عَنِ الدُّعاءِ بالزِّيادةِ في الأجلِ؛ لِأنَّه مَفروغٌ مِنه ونَدَبَها إلَى الدُّعاءِ بالاستِعاذةِ مِنَ العَذابِ مَعَ أنَّه مَفروغٌ مِنه أيضًا كالأجَلِ؟ فالجَوابُ: أنَّ الجَميعَ مَفروغٌ مِنه، لَكِنَّ الدُّعاءَ بالنَّجاةِ من عَذابِ النَّارِ ومن عَذابِ القَبرِ ونَحوِهما عِبادةٌ، وقَد أمرَ الشَّرعُ بالعِباداتِ ((فقيلَ: أفلَا نَتَّكِلُ على كِتابِنا وما سَبَقَ لَنا مِنَ القَدَرِ؟ فقال: اعمَلوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلِقَ لَه)) [1333] أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647) مُطَوَّلًا باختلاف يسير. . وأمَّا الدُّعاءُ بطولِ الأجَلِ فلَيسَ عِبادةً، وكَما لا يَحسُنُ تَركُ الصَّلاةِ والصَّومِ والذِّكرِ اتِّكالًا على القَدَرِ، فكَذا الدُّعاءُ بالنَّجاةِ مِنَ النَّارِ ونَحوِه، واللَّه أعلَمُ) [1334] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/ 213). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَد أورَدَ بَعضُ عُلَمائِنا على هَذا سُؤالًا، فقال: ما مَعنَى صَرفِه لَها عَنِ الدُّعاءِ بطولِ الأجَلِ، وحَضِّه لَها على العياذِ من عَذابِ القَبرِ، وكُلُّ ذلك مُقَدَّرٌ لا يَدفعُه أحَدٌ ولا يَرُدُّه سَبَبٌ؟ فالجَوابُ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَنهَها عَنِ الأوَّلِ، وإنَّما أرشَدَها إلَى ما هو الأَولَى والأفضَلُ، كَما نَصَّ عليه، ووَجْهُه أنَّ الثَّانيَ أَولَى وأفضَلُ؛ أنَّه قيامٌ بعِبادةِ الاستِعاذةِ من عَذابِ النَّارِ والقَبرِ، فإنَّه قَد تَعَبَّدَنا بها في غَيرِ ما حَديثٍ، ولَم يَتَعَبَّدْنا بشَيءٍ مِنَ القِسمِ الَّذي دَعَت هيَ به، فافتَرَقا. وأيضًا: فإنَّ من عَذابِ القَبرِ والنَّارِ تَذكيرًا بهما، فيَخافُهما المُؤمِنُ، فيَحذَرُهما ويَتَّقيهما، فيُجعَلُ مِنَ المُتَّقينَ الفائِزينَ بخَيرِ الدُّنيا والآخِرةِ) [1335] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 681). .
وقال ابنُ عُثَيمين في قَولِ اللَّهِ تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ: (إذا جاءَ أجلُ الإنسانِ لا يُمكِنُ أن يَتأخَّرَ ولا دَقيقةً واحِدةً، ولا يُمكِنُ أن يَتَقَدَّمَ، بَل هو بأجَلٍ مَعدودٍ مَحدودٍ، لا يَتَقَدَّمُ عليه ولا يَتأخَّرُ، فلِماذا تَجعَلُ الأمَلَ طَويلًا؟) [1336] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 443). .

انظر أيضا: