الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: دعوةُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

قال اللهُ تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [البقرة: 127-129] .
وعن العِرباضِ بنِ سارِيةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إني عندَ اللهِ في أمِّ الكِتابِ لخاتَمُ النَّبِيِّينَ، وإنَّ آدَمَ لَمُنجَدِلٌ في طينَتِه [1048] قال علي القاري: ( (وإن آدَمَ لمُنجَدِلٌ) من الجَدْلِ، وهو الإلقاءُ على الأرضِ الصُّلبةِ، أي: والحالُ أنَّه لساقِطٌ ومُلقًى (في طينَتِه)، أي: خِلْقَته، وهو خبرٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجُملةَ حالٌ من ضميرِ (مكتوب) أي: كُتِبتُ خاتَمَ الأنبياءِ في الحالِ التي آدَمُ مطروحٌ على الأرضِ حاصِلٌ في أثناءِ خِلْقَتِه، لَمَّا يُفرَغْ من تصويرِه وتَعْلَقِ الرُّوحُ به، كذا ذكره الشُّرَّاحُ). ((مرقاة المفاتيح)) (9/ 3684). ، وسأُنَبِّئُكم بتأويلِ ذلك: دعوةُ أبي إبراهيمَ وبِشارةُ عيسى قومَه، ورؤيا أمِّي التي رأت أنَّه خرج منها نورٌ أضاءت له قُصورُ الشَّامِ)) [1049] أخرجه أحمد (17163) واللَّفظُ له، وابن حبان (6404)، والحاكم (4175). صَحَّحه ابن حبان، والألباني في تخريج ((مشكاة المصابيح)) (5691)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17163)، وصَحَّح إسناده الحاكم، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/185)، وحَسَّنه ابن تيمية في ((الرد على البكري)) (61)، والذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (1/42). .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أنا دعوةُ إبراهيمَ، وكان آخِرَ مَن بَشَّر بي عيسى بنُ مريمَ)) [1050] أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (3/393). صَحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1463). .
قال الصنعاني: ( ((أنا دعوةُ إبراهيمَ)) أي: المدعوُّ لإبراهيمَ في قَولِه عند بناءِ البَيتِ: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] الآية، فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التالي للآياتِ على العبادِ، والمزكِّي لهم والمعَلِّمُ الكِتابَ والحِكمةَ. ((وكان آخِرَ من بشَّر بي عيسى بنُ مريمَ)) بقَولِه: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] وفيه أنَّ كُلَّ نَبيٍّ بَشَّر به؛ لِقَولِه: ((آخِر))، وفائدةُ البُشْرى التنويهُ بذِكْرِه والدَّلالةُ على حَقِّيَّةِ بَعثَتِه؛ لأنَّ الأنبياءَ صادِقون لا يُخبِرُون إلَّا بخبرٍ صادِقٍ) [1051] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (4/264). .
والتوراةُ الموجودةُ اليومَ -على الرغم مِمَّا أصابها من تحريفٍ- تحمِلُ شيئًا من هذه البشارةِ، فنجد فيها أنَّ اللهَ استجاب دعاءَ إبراهيمَ في إسماعيلَ؛ فقد ورد في التوراةِ في سِفرِ التكوينِ في الإصحاحِ السَّابِعَ عَشَرَ، فقرة (20): (وأمَّا إسماعيلُ فقد سَمِعتُ لك فيه، ها أنا أباركُه وأثمِّرُه، وأكثِرُه كثيرًا جدًّا، اثني عشَرَ رئيسًا يلدُ، وأجعَلُه أمَّةً عظيمةً كبيرةً).
وهذا النصُّ ورد في التوراةِ السَّامِريَّةِ بألفاظٍ قريبةٍ جِدًّا من المثبَتِ هنا، والترجمةُ الحرفيَّةُ للتوراةِ العبرانيَّةِ لهذا النَّصِّ: (وأمَّا إسماعيلُ فقد سَمِعتُ لك فيه، ها أنا أباركُه وأكثِرُه (بمأد مأد) [1052] يُنظر: ((محمد في التوراة والإنجيل والقرآن)) لإبراهيم خليل أحمد (القس سابقا) (ص: 36)، ((نبوة محمد من الشك إلى اليقين)) لفاضل السامرائي (ص: 250). ويُنظر: ((هداية الحيارى)) لابن القيم (1/335). .
ودلالةُ هذه البشارةِ على نبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من وجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الأُمَّةَ العظيمةَ عندَ اللهِ لا بدَّ أن تكون مُسلِمةً، ولم توجَدْ هذه الأمَّةُ مِن نَسلِ إسماعيلَ إلَّا بعد بَعثةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وانتشارِ المُسلِمين في المشارقِ والمغاربِ.
الثَّاني: النَّصُّ العبرانيُّ (مأد مأد) صريحٌ في اسم الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فالمترجمون ترجموه (جِدًّا جِدًّا أو كثيرًا كثيرًا) والصوابُ هو: مُحَمَّد؛ لأنَّها تُلفَظُ بالعبرانيِّ (مؤد مؤد) واللفظ العبراني قريبٌ مِن العربيِّ.
الثَّالِثُ: قَولُه: اثني عشر رئيسًا يلد، هذا موافِقٌ لإخبارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه سيلي أمرَ هذه الأُمَّةِ اثنا عشَرَ خليفةً كُلُّهم من قُرَيشٍ [1053] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 163). .

انظر أيضا: